14 يوليو 2025 / 00:19

العلوم الاجتماعية والعمى الأنطولوجي

محمد المسعودي. باحث من المغرب 

في الحاجة إلى مُنْعَطَفٍ وُجُوديٍّ في العلوم الاجتماعية
بينما كنت أتصفَّحُ أحد أبرز مُؤلَّفات برونو لاتور Bruno Latour، المَوْسُوم بـ«دراسة في أنماط الوجود: أنثروبولوجيا الحداثيين»(1)، اسْتَوْقَفَتْنِي الافتتاحية التي اسْتَهَلَّ بها كتابه، والتي تَخْتَزِلُ -كما سأفهم فيما بعد- مشروعه الفكري بِرُمَّتِه؛ حيث يَبْدَأُ لاتور باقتباسٍ من الإنجيل: «Si scires donum Dei»، الذي يَعْنِي: «لو كُنْتِ تَعْلَمِينَ ما هي عَطِيَّةُ الله» (العهد الجديد، إنجيل يوحنا، الإصحاح 4).

ولما بَحَثْتُ عن العبارة تَبَيَّنَ لي أنها وردت في سياق حوار المسيح مع المرأة السَّامِرِيَّةِ عند بئر يعقوب؛ فعندما طَلَبَ منها أن تَسْقِيَهُ، اسْتَنْكَرَتْ هي طَلَبَهُ لِـمَا كان بين شعبيهما من عداوةٍ تاريخية، وانْصَبَّ جُلُّ اهتمامها على الماء المادي. فكانت هذه العبارة «لو كُنْتِ تَعْلَمِينَ ما هي عَطِيَّةُ الله»، هي جوابه لها، إذ حَوَّلَ بها بَصِيرَتَهَا من الماء الظاهر في البئر إلى «عطية الله» غير المادية.

لقد كان جوابه بمثابة محاولةٍ لإحداث منعطف في رؤيتها، ودعوةٍ لتحويل انتباهها من واقع الماء المادي إلى إمكانية وجود أنماط أخرى من الوجود، أي عطيةٍ من نوعٍ مُغَايِرٍ لا تخضع لذات قوانين العطش والرِّيِّ.
إذا ما أَسْقَطْنَا هذا الحوار على العلوم الاجتماعية، سيبدو لنا بجلاءٍ أنَّها قد أصابها عَمًى أُنْطُولُوجِيٌّ؛ حيث لم تعد البحوث التي تُجْرَى ضمنها تُؤَسِّسُ لأبعدَ من حدود الفلسفة المادية التي هيمنت على الموقف الوجودي فيها. فقد ظَلَّ عِلْمَا الاجتماع والأنثروبولوجيا «التَّقْلِيدِيَّانِ»، شأنهما شأن المرأة السَّامِرِيَّةِ، رَدْحًا طويلًا من الزمن أَسِيرَيْ رؤيةٍ اختزالية، سواء كانت مادية صريحة أو تأويلية مهتمة بالمعنى حَصْرًا.

فكما لم تُبْصِرِ المَرْأَةُ السَّامِرِيَّةُ سوى الماء المادي، غالبًا ما يُخْتَزَلُ «الوجود» بِأَسْرِهِ في حقيقةٍ أُحَادِيَّةٍ، هي الحقيقة العلمية القابلة للقياس، بينما تُعَامَلُ كُلُّ أشكال الواقع الأخرى -كالواقع الديني- على أنه بناءٌ اجتماعي أو تمثيلٌ ذاتي.

لقد حان الوقت لكي نتجاوز هذا البئر الأنطولوجي الواحد، لكي نرى أن ثَمَّةَ عَطَايَا أخرى، أي أنماط وُجُودٍ مُتَعَدِّدَةٍ وقائمة بذاتها، لكلٍّ منها شروطه الخاصة في الوجود وطرقه الخاصة في إنتاج الحقيقة، بدلًا من الاستمرار في اعتبارها مَنْظُورَاتٍ مختلفة حول عالم واحد.

————————————-
(1). Bruno Latour, Enquête sur les modes d’existence : Une anthropologie des Modernes (Paris: La Découverte, 2012), p. 5.