27 يونيو 2025 / 10:36

الفكر المريدي وإشكالية الاستمداد من الفكر الإسلامي: تأملات في رؤية الدكتور شيخ انجاي

محمد دام بجان

بمناسبة الندوة العلمية التي نظّمتها الرابطة الخديمية للباحثين والدارسين حول: “النهضة العلمية لدى الطريقة المريدية: الملامح والاتجاهات والآفاق”، جاءت مداخلة الدكتور شيخ انجاي Ndiaye Cheikhe Ndiaye تحت عنوان: “حركة التنظير حول الفكر المريدي: واقعها، اتجاهاتها، آفاقها المستقبلية”، وقد انبثقت منها فكرة محورية صرّح فيها بقوله: “الفكر المريدي استمداد من الفكر الإسلامي”، غير أن هذا القول، وإن كان يبدو في ظاهره تأكيدًا لانتماء الفكر المريدي إلى المرجعية الإسلامية الكبرى، إلا أنه ـ من حيث عمقه المفهومي ودلالته الإبستمولوجية ـ لا يخلو من إشكال، بل يحمل في طيّاته اختزالًا غير منصف لخصوصية هذه التجربة الفكرية والروحية، ويكاد يجرّدها من فرادتها التاريخية، ومن حقها في تسمية ذاتها واحتلال موقعها الخاص داخل الخريطة الفكرية الإسلامية؛

ذلك أن اختزال الفكر المريدي في “استمداد” من الفكر الإسلامي، هو في حقيقته نزعة استيعابية تذيب المختلف في المتشابه، وتحوّل التعدد الخلّاق إلى وحدة مصطنعة تحت غطاء المرجعية، وهو نوع من المركزية المفهومية التي تعتبر كل تجربة فكرية محلية أو سُفلية ليست سوى ظلّ باهت لنموذج أعلى مفترض، لا يعترف إلا بنفسه مصدرًا ومعيارًا، وإذا ما طبقنا هذا المنطق على المدارس الفكرية الكبرى في الإسلام؛ فإنه يغدو من اللازم أن ننفي عن الفكر الأشعري انتماءه للأشعري، وعن المعتزلة نسبهم الاعتزالي، وأن نختزل الفلسفة الإسلامية بأكملها في كونها مجرد صدى للفكر اليوناني، وهو ما لا يقبله العقل النقدي ولا تُقرّه “التجربة التاريخانية”.

وإنه لمن المفارقات أن يُعتبر الفكر المريدي بما هو تجربة روحية وفكرية إفريقية تجديدية ـ امتدادًا للفكر الإسلامي العام، في حين لم يُمنع الفكر الأشعري أن يُنسب إلى الأشعري، ولا الفكر المعتزلي أن يُربط بالاعتزال، ولا الفلسفة الإسلامية أن تُقرن بالأسماء والمذاهب، بل حتى الفكر الصوفي لم يُختزل في كونه امتدادا مجردا للإسلام، بل سُمِّي فكرًا صوفيًا إسلاميًا، وعُرف بأعلامه وأبعاده ورموزه ومسالكه المستقلة.

إن كانت كل هذه المدارس الفكرية التي تشكّلت في ظل الإسلام تحمل أسماء خاصة بها، فهل يُعقل أن يُطلب من الفكر المريدي أن يتخلى عن اسمه، وهويته، وخصوصيته، ويذوب في عمومية اصطلاحية لا تقول شيئًا عن أصله ولا عن تطوره؟
بل إن اصطلاح “الفكر الإسلامي” ذاته ليس خاليًا من الإشكال، إذ لا يُفيد معنىً واحدًا إلا إذا أُضيف إليه توصيف يحدّد منطلقه ومجاله: هل هو الفكر العربي الإسلامي؟ أم التركي الإسلامي؟ أم الفارسي؟ أم الأفريقي؟ أم الفلسفي؟ أم الصوفي؟ أم الوهابي؟…
فهذه الإضافات ضرورات ابستمولوجية لفهم منشأ الفكر ومجراه.
لأن اصطلاح “الفكر الإسلامي” في أبرز تجلياته، كان تأويلاً خلاّقًا له، وليس نسخا مكررا من التراث اليوناني، وقد قدّم الكندي مثالاً على تأسيس نسق فلسفي إسلامي داخل حدود التوحيد، بينما عمل الفارابي على بناء نظرية في المدينة الفاضلة لا تجد مرجعها إلا في جدل العلاقة بين النبوة والفلسفة، وبلغ ابن رشد ذروة هذا المجهود عندما واجه بجرأة أطروحات الغزالي، وأعاد صياغة العلاقة بين العقل والشريعة بلغة لا تنتمي إلى أرسطو قدر انتمائها إلى لحظة أندلسية تحاول استنقاذ الفكر من سطوة النقل…، وحتى الفكر الصوفي الذي يُظنّ أنه امتداد تقليدي للزهد النبوي، فقد عرف تحولات هائلة من الجنيد إلى السهروردي، ومن أبي حامد الغزالي إلى محيي الدين بن عربي…، وتحوّل الذوق الفردي إلى رؤية كونية، وصار التوحيد عند البعض وحدة وجود، والعبادة تجربة أنطولوجية لا يمكن التعبير عنها إلا بلغة الرمز والتأويل..
إذن: ولو كان الفكر واحدًا في كل أرجاء دار الإسلام، لما وُلدت هذه التيار الفكرية بهويتها الإسلامية.

وإذا عدنا إلى الفكر الإسلامي ذاته وسألنا: ما هو امتداده؟ فإن الجواب يفضي إلى أن الفكر الإسلامي ليس كيانًا نقيًا خالصًا، بل هو نفسه ناتج تراكمي من التأويل البشري للقرآن والسنّة ضمن شروط تاريخية ضاغطة ومعقدة، كمرحلة الغزوات والفتوحات، واللقاءات الثقافية، والتحولات السياسية من الخلافة إلى الملك العضوض… بهذه التربة نما الفكر، وأثمر، وتنوع، فكان فيه الفقهي والسياسي والكلامي والفلسفي والصوفي… وكل تيار من هذه التيارات نشأ من حاجة وضرورة، لا من الامتداد فحسب.

بهذا، ما من مدرسة في الفكر الإسلامي إلا وكانت استجابة لحاجة مخصوصة داخل سياقها التاريخي، فالمعتزلة وُلدوا من رحم التحدي الكلامي، والأشاعرة نشأوا على خلفية ضرورة سياسية لحماية وحدة الأمة، والفلاسفة المسلمون بنوا تأملهم على تقاطع التراثين الإسلامي واليوناني، فيما تطور علم أصول الفقه عند الشافعي كردّ على فوضى الاستنباط، وظهر علم الرجال لحماية السنة من الوضع، وازدهر التصوف العملي في الغرب الإسلامي باعتباره محاولة لتجاوز جفاف الفقه وقصور الكلام، إذن؛ فلماذا يُطلب من الفكر المريدي وحده أن يتخلى عن اسمه، وأن يُعاد إدماجه في مفهوم “الفكر الإسلامي” العام، دون إضافة تميّز أو توصيف خاص؟

إن الفكر الإسلامي، في جوهره، ليس وحدة صلبة مغلقة، بل بنية شبكية متعددة تتداخل فيها عناصر قومية ولغوية وثقافية، تمتد من نيسابور إلى قرطبة، ومن بغداد إلى فاس، ومن الحجاز إلى تمبكتو…، فلكل بيئة صوتها، ولكل لحظة سؤالها، ولكل تحدٍّ طريقته في التأويل، فهل يمكن أن نعتبر الفكر الذي وُلد في بيئة أندلسية، تعايشت فيها الديانات، وانفتحت على فلسفة ابن ميمون، هو ذاته الفكر الذي نشأ في بغداد تحت ظلال الدولة العباسية؟ وهل يمكن أن يكون خطاب الحلاج في سجون بغداد هو ذاته خطاب الشيخ المجذوب مام إبراهيم فال في زاوية الشيخ الخديم -رحمة الله عليهم-؟ لا شيء يوحّد هذه التجارب سوى مرجعيتها الكبرى، أي الإسلام، أما أساليب التعبير عنه، وأفق النظر فيه، وأدوات التفاعل معه، فهي تتعدد بتعدد التاريخ والإنسان.

ومن هنا، لا ينبغي أن ننظر إلى الفكر المريدي كامتداد خاضع، لأنه لم ينشأ في فراغ، وإنما وُلد من رحم تجربة سنغالية مزدوجة: مقاومة للاستعمار من جهة، ومحاولة لإعادة بناء المشروع الإسلامي في سياق إفريقي من جهة أخرى، بهذا قد قدّم الشيخ أحمد بمب نموذجًا متكاملًا، تداخل فيه الجهاد الروحي مع الإصلاح الاجتماعي، واستعاد فيه مفهوم “الخدمة” باعتباره مشروعا حضاريا، يربط بين العبودية وحرية الإنسان، بين الفناء والبناء، بين العرفان والعمل…، كما استعاد مفهوم “الخلافة” بمعناه الأنطلوجي، وبنى بذلك أرضية لقراءة الإسلام من الجنوب، بلغة مجددة، وبخيال مثلها، وبهمٍّ وجودي معاصر.

إن ما يجعل الفكر المريدي تجربة تجديدية هو أنه، على خلاف كثير من الخطابات الإسلامية، لأنه حاول “إعادة تأسيس العلاقة بين النص والواقع”، وكان مشروعه بناءً و تأسيسًا للمستقبل.
وإذا كان كل فكر أصيل ينشأ من حاجة، فإن الفكر المريدي نشأ من حاجة مجتمع إفريقي مسلم إلى التحرّر، من أي ألوان استعمارية، و من اختزال الإسلام نفسه في أنماط سلطوية وثقافية لا تعبّر عن روحه، ولا عن آفاقه.

وأخيرا، لا يكون الإنصاف في أن نختزل المريدية في “امتداد”، بل في أن نقرّ بأنها مساهمة فكرية حية في بناء التنوع داخل الوحدة الإسلامية، صوت من الجنوب يحمل من نور الإسلام، لكنه يعكسه بلغة أخرى، ووجدان آخر، وتجربة أخرى