طارق حنيش
إنّ المشكل الذي يُنازعنا في صنيع الأستاذ الطيّب بوعزّة في كتابه المسمّى بـ”نقد الليبرالية”، ليس من جهة المقصود، أعني منازعة الليبرالية ومُضادّتها، فإنّا نُسلّم له قصدهُ، ولا نُنازعه في إرادة الانتصار لما يُخالفُها؛ بل الإشكالُ كلُّه في الهيئة المنهجيّة التي انتُسج بها هذا النقدُ، إذ نراه قد توسّم عنوانًا جليلاً، وهو “النقد”، ثمّ لم يُوفّ هذا العنوان ما يُوجبه من التحرير والتمييز، ولا استوفى أركانهُ المفهوميّة على وجه التحقيق، بل جاء على جهة التسمية لا الحقيقة، فكأنّه نقدٌ بالتجوّز لا بالتخصيص، وتشنيعٌ لا تحليل، واستنكارٌ لا تفكيك. وذلك أنّ “النقد” – كما قرّره المحقّقون من فلاسفة هذا الطور – ليس هو إطلاقُ القول بردٍّ أو ذمٍّ، ولا هو من جنس الحماسة أو الحنين، بل هو استبطانُ الخطاب على ضوء بنيته المعرفيّة، وسبرُ تشكّله التاريخي، وفكّ اشتباكه مع شروطه الأنثروبولوجية التي استدعتْه وأملتْه، على النحو الذي فعله “ديفيد بوند” في كتابه الموسوم بـ Nemesisوقد كنّا – في ما مضى – قد قدّمنا قراءةً تحليليةً لعددٍ من المؤلفات المركزيّة في نقد الليبرالية، منها هذا الكتاب، وكتاب “التحوّل العظيم” لكارل بولانيي، وكتاب “ضدّ الليبرالية” لآلان دوبينوا، وهذه القراءاتُ كانت تمهيدًا منهجيًّا لرؤيةٍ نقديّةٍ لا تقفُ عند سطح المفاهيم، بل تُعيدُها إلى أُصولها الغائبة، وتُوازنُ بينها وبين ما تحمله من لوازم أنطولوجيّةٍ، تُفصحُ عنها في مقام التنزيل وإن أخفتها في مقام التنظير}، إذ تتبّع الجذور اللاهوتيّة للخطاب الليبراليّ، واستظهر رمزيّاته الخفيّة، مستعينًا بأطاريح روني جيرار في “المحاكاة القُربانيّة”، وبرتران دوجوفينيل في بيان “البنية الكاتدرائيّة” للحداثة، وبتأويلات إيريك غانس لنشأة اللغة بوصفها تجلّيًا لأزمة العنف الأصليّ. فهذا هو النقدُ الحقُّ عند من رزق الفهم والتحقيق، إذ لم يُغفل العمق الأنثروبولوجيّ، بل اتّخذهُ مرتكزًا، فصار نقدًا تفكيكيًّا على التحقيق لا على الظنّ، ومُضادّةً بنيويّةً لا أدبيّة.
فإن تنظر إلى ما كتبه آلان دوبينوا، من رجال “اليمين الجديد”، في منازعة الليبرالية، تجده قد استوفى المرام في تحليله، وبلغ الغاية في فصله، إذ عرض لمواقف فلاسفة الليبرالية من هوبز إلى راولز، ثمّ استند إلى منطق التفكيك، فلم يجعل ردّه مجرّد ارتجالٍ ولا هُجومًا استظهاريًّا، بل استخرج من بنية الليبرالية تناقضاتها الدفينة، وكشف أنّها تُنازعُ ذاتها من داخلها، فهي تزعمُ الحياد الأخلاقيّ، ثم تُخضعُ الناس لمعياريّةٍ كامنةٍ باسم السوق، وتدّعي التسامح ثم تُقصي من خالفها باسم العدالة، وتُؤلّه الحرية، ثم تصوغ لها قيدًا من ذاتها، حتّى تصير سجنًا باسم الانعتاق. فهذا نقدٌ بنائيٌّ لا هُتافٌ أخلاقيّ، وتفكيكٌ أنطولوجيٌّ لا إنكارٌ ظاهريّ. ثم تلقّف ألكسندر دوغين هذا النقد، فزاد عليه، إذ عدّ الليبرالية لا مجرّد مذهبٍ للفرد، بل عقيدةً إمبراطوريّةً ذات بُعدٍ كونيّ، تستبطنُ مشروعًا لاهوتيًّا سلبيًّا، وتُسخّر خطاب الحقوق والحرية لاستتباع الشعوب، وتُخفي تحت شعار التعدديّة نزعةً إلى نفي كلّ مبدأٍ ميتافيزيقيٍّ مشترك، حتّى تصير الحقيقةُ نسبةً، والمعنى وهمًا، والوجودُ خواءً. وقد أبان دوغينُ أن الليبراليّة ليست نفيًا للدين، بل تديُّنٌ مستبطنٌ باسم الذات السيّدة، وأنّ الحرية عندها ليست تحرّرا من الإكراه، بل انتقالٌ من عبوديّةٍ إلهيّةٍ إلى عبوديّةٍ للسوق والرغبة، وهذا هو “الزمن العدميّ” الذي نطق به دريدا، حيثُ المعنى مُعلّقٌ، والحقيقةُ مؤجّلة، والزمانُ لا ينتهي. فأين هذا من صنيع الأستاذ بوعزة؟ لقد اكتفى بترديد مقولاتٍ أخلاقيّةٍ مُكرورةٍ: أنّ الليبراليّة تُهمّش القيم، وتُضعف الهويّة، وتُقصي الروح. نعم، هي عباراتُ حقٍّ، ولكنّها لا تنهضُ بمنهجٍ، ولا تُقيمُ صرحًا للحجّة، لأنها لم تشتبك مع بنية الخطاب الليبراليّ، ولم تفكّك أُسُسه التأويليّة، ولم تُحرّر معانيه من أصلها اللاهوتيّ الخفيّ. والحقُّ عندنا: أنّ من لم يرُدّ الليبراليّة إلى أصلها اللاهوتيّ، ويُبيّن أنّها ليست نفيًا للدين، بل صيغةً جديدةً من التدين الزائف، فإنّه لا يُحسن النقد، بل يُنكر الصورة ويُبقي الجوهر، كمن كسر الصنم وعبد الوثن. فالليبراليّةُ، في جوهرها، عقيدةٌ تنصّبُ الإنسان كاهنًا لنفسه، وتُنزلُ الإرادة موضع الوحي، وتجعل من الرغبة شريعةً، ومن السوق ربًّا، ومن التقدّم آخرةً دنيويّة، ومن الفرد معيارًا لكلّ شيء، حتى تصير الحقيقةُ ذاتها صدىً لقرار ذاتيٍّ متغيّر.
وإنّا لمّا رددنا النظر في حقيقة الليبراليّة، لا على وجهها الظاهريّ – من شعارات الحريّة والفرد والتقدّم – بل على أصلها اللاهوتيّ العميق، وجدناها نحلةً متنكّرةً، تُبدي في ظاهرها ما تُخالفه في باطنها، وتُظهرُ التحرير وهي في الحقيقة تُعيدُ ترتيب العبوديّة في صيغةٍ جديدة. فقد استبان لنا – بمقاربةٍ منطقيةٍ وكلاميّة – أنّ الليبرالية ليست نفيًا للسلطة الماورائية، بل تحويلٌ لمسندها؛ إذ نقلت الإلوهيّة من مقام الوحي إلى مقام الإرادة الذاتية، ومن شريعة الله إلى ناموس الرغبة، ومن الحقّ الكليّ إلى الرأي الفرديّ، فبدا لنا أنّ في جوفها من التوحّش الرمزيّ ما يُشبهُ صورة “الدجّال” الموصوف في الشريعة، إذ هو يدّعي ما ليس له، ويُظهر من صفات النبوّة ما يُناقض جوهرها، ويتكلم باسم الحقّ وهو باطنُ الباطل. وقد علمنا – من جهة العقل والنقل – أنّ “الدجّال” ليس يُقصدُ به شخصٌ مفردٌ وحسب، بل هو صورةٌ جامعةٌ لكلّ نظامٍ يُلبّسُ على الخلق أمرهم، فيُغيّرُ مراتب المفاهيم، ويجعل التابع متبوعًا، والمخلوق مشرّعًا، والرغبة مصدرًا للمعنى، وهذا – بعينه – ما تفعلُه الليبرالية. فإذا قُلنا: إنّ الليبرالية تمظهُرٌ للدجّال، فإنّما نقولُ ذلك عن تحقيقٍ لا عن تهويل، وعن بناءٍ منطقيٍّ يُحاكمُها إلى مقدّماتها اللاهوتيّة، لا إلى سطح شعاراتها. فإنّك إن اعتبرت أن كلّ منظومةٍ تُعلي من شأن الفرد حتى تُصيّره إلهًا صغيرًا مشرّعًا، وتُقصي عن العالم كلّ مرجعيّةٍ غيبية، وتُقيم المعنى على الهوى، وتستبدل التقديس بالاستهلاك، فإنك – بحُكم العقل – تُسمّيها تمظهرًا من تمظهرات “الدجّال”، ولو اختلفت التسميةُ وتبدّلت اللسان. فهذه الليبراليةُ، من حيثُ هي فلسفةُ مركزية الإنسان المتأله، قد جمعت شروط الدجّال: قلبُ الحقائق، وهيمنةُ المظهر، وإخضاعُ الحقيقة للمصلحة، وتسويغُ الإلحاد بوصفه تحرّرا، وتحويلُ الغيب إلى “خرافة”، والنبوة إلى “أسطورة”، والوحي إلى “قمعٍ ثقافيّ”. فالحكمُ عليها لا يكونُ إلا بعد ردّها إلى أصولها، فإذا ظهر أصلُها ظهر فرعُها، ومن لم يُدرك العلّة الأولى، لم يُحسن الحكم على المعلول. ومن هنا قلنا – غير هيّابين – إن الليبرالية تجلٍّ من تجلّيات الدجّال المؤسّسي، وهي صورةُ الضلالة الكبرى في لبوس العقل، وغايةُ الباطل في منطق “الحياد”، وعبادةُ الذات التي نُزعت منها القداسةُ وبقيت لها السلطةُ.