طارق حنيش
إنّ الترجمة التي نعتمدها في نقل النّصوص إلى لسان العرب ليستْ مجرّد نقل الألفاظ بأشباهها في العبارة، بل هي صنْعةٌ فكريةٌ تهدف إلى دفع العقل إلى تدبّر الرّوح الكامنة وراء ظاهر الألفاظ، كما يشير إلى ذلك الأستاذ طه عبد الرحمن في “روح الحداثة”.
فالغاية منها ليستْ تحقيق الشّبه اللّفظيّ، بل إصابة المعنى في لبابه، والتقاط الفكرة في عراها، ثمّ كسوتها حلّةً من البيان العربيّ يناسب مقصودها. وهذه الترجمة إنّما تصحّ لمن جمع بين أمرين:
ــ أحدهما، فهْم مقصد المؤلّف فهْمًا دقيقًا نافذًا.
ــ والثاني، التمكن من صناعة اللّسانين جميعًا، بحيث يكون عالمًا بأساليب كلّ واحدٍ منهما ومقاصد أهله.
وليس هذا بمقام الترجمة الحرْفية التي تخلّ بالمعاني، بل هو مقام الترجمة الإبداعية القائمة على فقه النصّ وبصيرة القارئ، وما ذاك إلّا بمجهودٍ شاقٍّ لا يطيقه إلّا من رزقه الله حظًّا من الفطنة والبيان.
هذا الذي قرّرناه هو عين الخطأ الذي وقعتْ فيه كثيرٌ من التّراجم التي صدرتْ عن أقلام الحداثيّين في القرن العشرين؛ فإنهم لم يحسنوا إلا نقل الألفاظ إلى أشباهها، دون وعيٍ بروح النصوص ولا إدراكٍ لأسرارها الكامنة في تضاعيف البيان، فصارت تراجمهم صورةً ظاهرها ترجمةٌ، وباطنها تغريبٌ وتصحيفٌ، تنقل فيها المفاهيم الأعجمية إلى العربيّة نقولًا ناقصةً أو محرّفةً، حتى صار الفكر العربيّ عندهم تابعًا لمنطق العبارة الأعجمية لا حاكمًا عليها.
ولذلك رأيت نصوصًا فلسفيّةً أو فكريةً تترجم عندهم فتأتي كأنها كتبت بلغةٍ ثالثةٍ لا هي عربيّةٌ صافيةٌ، ولا هي أعجميةٌ خالصةٌ، بل لغةٌ هجينةٌ، لا تصلح أن تكون منطق تفكيرٍ ولا آلة تحريرٍ. وهذا كلّه إنما نشأ من قلّة البصيرة في فهْم النصوص من جهتها الروحيّة والمفهوميّة، ومن قصور الأداة في إحسان الجمع بين لسانيْن وثقافتين.
فليست الترجمة ـ عند من يحسنها ـ من صنيع النّسّاخ والمترجمين الحرفيّين، بل من صنيع الفلاسفة والمفكّرين وأرباب البصائر.