21 يونيو 2025 / 12:38

التراث والمنهج بين أركون والجابري: قراءة نقدية

عبد الإله زيات

معلوم أن الاشتغال على التراث لا يبدأ بتصنيفه ولا ينتهي بمقارنته، بل يبدأ بمساءلة الأسس التي ننطلق منها حين نقرأه، والمفاهيم التي نحمله إياها، والأفق الذي ننتظره منه، من هذا المنطلق لا يمكن اعتبار كتاب “التراث والمنهج بين أركون والجابري” لنايلة أبي نادر مساهمة تأسيسية في تفكيك الخطابات التراثية، بقدر ما هو تمرين أكاديمي محكوم بهاجس التوفيق، لا بقلق التفكيك.

لا تشتغل الكاتبة على التراث في ذاته، بل على مشروعين فكريين سبق لهما أن اشتغلا عليه، لكنها بدل أن تحاكم منطقهما الداخلي أو تستخلص التناقضات الكامنة فيهما، تختار أن تقف منهما على مسافة واحدة، وأن تجري عملية فرز منهجي خال من الموقف النقدي الفاصل، المشروع في جوهره قائم على مقارنة، لكنها مقارنة تميل إلى الترصيف بدل التصادم، يتم استعراض منهج أركون، ثم منهج الجابري، ثم يقارن بينهما وتستخرج نقاط الاتفاق والاختلاف في غياب أي مساءلة عميقة للفرضيات التي انطلق منها كل منهما أو للأثر الأيديولوجي الذي نتج عن مقاربتهما للتراث.

إن فكرة المقارنة في ذاتها ليست إشكالية لكن الإشكال في تحويل مشروعين متضادين في المنطلق والرؤية إلى حقل مشترك من التسويات وهذا ما يوقع الكاتبة في تسطيح الخلاف وتحويله إلى مجرد اختلاف في المناهج وليس في بنية التفكير ذاتها، لا أحد ينكر أن أركون اشتغل على التراث بأدوات معرفية حديثة لكنه اشتغل عليه من خارجه أي انطلق من خضوعه الكامل لمقولات العقل الأوروبي الحداثي بل لما بعده، التراث عنده هو ما لم يفكك بعد وفي هذه العبارة قدر كبير من المصادرة، لأن أركون نفسه لا يسائل إمكانية إنتاج أدوات داخلية من التراث لفهمه فكل قراءة لا تنطلق من أدوات حديثة تبقى عنده عاجزة أو مكرسة للخطاب التقليدي، والأستاذة تنقل هذا التصور دون مساءلة بل تضعه في مقابل تصور الجابري وكأنهما متوازيان.

والحال أن بينهما تفاوتا جذريا في المقاربة، الجابري ورغم ما يحسب له من محاولات تأصيل عقلاني داخلي، أعاد إنتاج تراتبية عقلية تقصي الصوفي وتبرر البرهاني، وتحاكم التراث لا بوصفه تعددا قابلا للتأويل، بل بوصفه تركيبا معرفيا قابلا للفصل والتصنيف. نايلة أبي نادر لم تدخل في تفكيك الخطاب نفسه، إنما توقفت عند تفكيك بنيته المنهجية الظاهرة وهي بذلك لم تسائل المشروعين من الداخل وإلا قدمت قراءة مدرسية تكتفي بالوصف والتبويب والتحقيب في حين أن المفترض في أي قراءة نقدية أن تبدأ من سؤال: ما الذي يراد من هذا الاشتغال على التراث؟ وما طبيعة السلطة الكامنة خلف كل مشروع؟ أركون يضع العقل الإسلامي تحت مجهر الأنسنة الغربية والجابري يعيد بناء العقل العربي وفق منطق القراءة الرشدية، وكلا المشروعين لا يتجاوز منطق المركز، أحدهما مركز الغرب والآخر مركز العقل.

وهنا تبرز الثغرة الكبرى في الكتاب: غياب الرؤية الخاصة، الأستاذة لا تقول من أين تكتب ولا وفق أي أفق مفهومي تقرأ المشروعين، بل تكتفي بعرضهما وتنسيق الفروق، هذا ما يجعل النص غير متوتر، وغير مولد للأسئلة فالتاريخ الفكري لا يتقدم بالتوفيق بين المشاريع، بل بخلخلة أسسها _وهذه الفكرة حول المقارنة قد أشار لها الأستاذ عبد الحكيم أجهر في كتابه ونقله عن البغدادي أن عقلنا يحتاج للإبداع لا للمقارنات والتوفيقات_ومساءلتها في بنيتها الأولى، بل إن المشروعين نفسيهما ـ أركون والجابري ـ قد بلغا أقصى ما يمكن أن يبلغه مشروع تأسيسي من داخل منطق الاستعارة الفكرية، أركون استعارة لما بعد الحداثة والجابري استعارة لما قبلها.

في الفصول الأخيرة من الكتاب يظهر بوضوح أن الكاتبة تميل إلى طمأنة القارئ أكثر من تحريضه، هي لا تعلن موقفا، ولا تزعزع قناعة، بل تنقل وتوازن وتنتقي ألفاظا ناعمة، لا تفتح أفق مساءلة حقيقية للتراث ولا تتخذ منه لحظة كشف بل لحظة تأويل في حدود المسموح أكاديميا.

وعليه هذا واضح أيضا في مقالاتها المنشورة في “مؤمنون بلا حدود” حيث يعاد التذكير بضرورة نقد التراث، وضرورة الانفتاح على مناهج جديدة، وتقديم نماذج في اللغة والمقدس والعقلانية، وضرورة إعادة قراءة النصوص، لكن هذه الضرورات تقال دائما دون نقد جذري للأدوات المستعملة، وكأنها أدوات محايدة في حين أن كل أداة تحمل رؤيتها للعالم، وتحمل معها سياقاتها وأنظمتها.

بالنسبة لي ليس الإشكال أن تكون الباحثة متأثرة بأركون أو الجابري،لكن الإشكال في كونها غير قادرة على مساءلتهما في العمق، أن تتخذ مسافة متوهمة بينهما وتحول التوتر المعرفي إلى مجال للتوفيق، هذا النوع من الكتابات لا يضيف للفكر شيئا، لأنه لا ينتج موقفا ولا يقترح بديلا، يظل يكرر المشاريع السابقة بلغة جديدة، ولهذا فإن كتاب التراث والمنهج بين أركون والجابري يظل نصا وصفيا، يحسن الترتيب، لكنه لا يجرؤ على التأسيس وقد خيّب أملي فيه بعدما كنت متحمسا لقراءته وحسبت أنه ذو قيمة نقدية.