20 يونيو 2025 / 10:01

بين تغييب العقل وتسيد الخرافة: ضرورة إعمال العقل

لحسن عدنان

ارحموا عقول من في الأرض يرحمكم من في السماء

***************

العقل نعمة، لكن كثيرين يجحدون النعم، ويجحدون نعمة العقل أكثر.  ولا يقوى على تشغيل العقل والامتثال لقوانينه وقواعده ونتائجه الا قلة قليلة. وهذا قانون كان وسيبقى. (ولكن أكثر الناس لا يعقلون). هذه الأكثرية تغتبط بما ألفت، وبما ورثت، وبما عليه الإجماع، وإن كان فيه التيه والغرق في الخرافات والأماني والقناعات الزائفة.

نعم، إن الخرافات والامنيات الخيالية كانت وماتزال تتسرب إلى تفاصيل الحياة اليومية كما يتسرّب الماء بين شقوق وفراغات البنايات العالية ظاهريا، وشيئا فشيئا يهدمها فيسويها بالأرض.

وفي عصر العلوم والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، تشتد الحاجة أكثر من أي وقت مضى، إلى خطاب يعيد الاعتبار للعقل، ويوقظه من غفوته الطويلة.  فالعقول الحرة والنابغة، في كثير من مجتمعاتنا، لم تعد تُكرَّم أو تُحترم، بل تُسفَّه، وتُتهم بالغرور أو الكفر أو الغفلة إذا ما سألت أو تمردت على المعطى الجاهز، ومن هنا هذه الدعوة الصادقة: “ارحموا عقول من في الأرض، يرحمكم من في السماء”، إذ لا يمكن أن تُرحم أمة أو تستحق الرحمة وأكثريتها تهين عقولها وعقول أبنائها، وتُقدّس ما لا يُفهم، وتُسلّم بما لا يُناقش.

هذه ليست دعوة الى أمر جديد أو بدعة، وليست دعوة إلى أن تشكك الناس في إيمانها أو نزعه من القلوب، بل هي دعوة صريحة إلى تحرير العقل من عبودية الوهم والامنيات الزائفة والقناعات المتوارثة بلا برهان والاخبار المزيفة، وهي دعوة أيضا إلى إعادة العقل إلى مكانته الطبيعية كأرقى نعمة وُهبها الإنسان.  ” فالتفكير- أي تشغيل العقل -نعمة لا تضاهى” كما يقول جون ستيوارت ميل، فكيف نقبل أن نهدرها ونستبدل بها تفسيرات خرافية تُرضي العاطفة وتُخدر الوعي لكنها لا تُنتج معرفة، ولا تُغير واقعًا، ولا تبني قوة، ولا تغير مستقبلًا، ولا تحصن وطنا، ولا تنفع الاجيال الحالية ولا اجيال المستقبل القريب والبعيد؟

هو أمر مؤلم وقاس جدا أن كثيرًا من الناس باتوا يعيشون أسرى لعقليات غيبية خرافية تركن الى تفسير كل شيء بالمؤامرة وكيد الاعداء وبالخرافة وبالسحر والعين والطاقة السلبية، بل وبتدخلات الجن أيضا وربما مخلوقات اخرى تنزل من الفضاء او تعيش في الخلاء.  يُصاب أحدهم بمرض فيُهرع إلى “راقي شرعي ” يتلو عليه طلاسم وأحجيات.  يفشل الكسالى والمتقاعسون، فيجدون في سوء الحظ ملاذا يقيهم النقد وحسن التوجيه والجدية والمثابرة.

تحترق البيوت، وتغرق المدن، وتنهار الجسور، فنُرجع كل ذلك إلى “غضب السماء” أو “معصية الناس” او ” ذنوب وعري النساء”. حتى في الخرافة تظلم المرأة أكثر، بينما تتجاهل هذه العقول الخرافية والكسولة خلل الدراسات وسوء إنجاز البنيات التحتية، وغياب البحث العلمي والتفكير الناقد، وسوء التسيير، والإهمال الممنهج، وغياب روح العمل والقيم البانية.

هذا النوع من التفكير هو أخطر أنواع الاستسلام، لأنه لا يبحث عن الأسباب الحقيقية، بل يجد في “الغيب” بمفهومه السلبي والناقص تبريرًا لكل ضعف، وفي الوهم ملجأ من المسؤولية، وفي المعجزات حلا لكل تخلف.

لقد نبّه الفيلسوف كارل بوبر إلى التساؤل حول كل شيء، وإلى تبني الشك مسلكا ومنهجا، حيث يقول ما معناه: “العلم يبدأ عندما نبدأ في التشكيك في خرافاتنا”. وهذه هي البداية الحقيقية لمن يريد الخروج من سجن الخرافات وزنزانة العقائد والافكار المضلة.

من لا يشك لا يعرف.

ومن لا يتساءل لا يتطور.

ومن لا يتطور حتما يتأخر.

ومن لا يتقد يتقادم. وينتهي.

وما دام التفكير ممنوعًا، والنقد محرّمًا، فإننا نعيش داخل سجنٍ ذهنيٍّ طوعيّ، نُسجن فيه باختيارنا باسم الطاعة والايمان والولاء.

إن العقل النقدي لا يُنكر الإيمان، بل يُعيد إليه طهارته وجوهره.  والعقل الحي لا يُحارب المقدس، لكنه يُحارب تسخير المقدس لتكريس الجهل والولاءات العمياء.

يقول إيمانويل كانط: “الأنوار هي خروج الإنسان من حالة القصور العقلي التي وضع نفسه فيها”.  حالة القصور العقلي هذه، اليوم، تتجلى بوضوح في مجتمعات تُخوّف من الأسئلة، وتُجَرِّم الشك، وتمنح العصمة لأفراد ومذاهب، وتجعل من الاتباع الأعمى فضيلة، ومن التفكير جريمة.

لا أحد ينكر أن الوهم مريح في لحظته.  لكنها راحة مزيّفة، “كراحة النائم في بيت يحترق ” كما عبّر نجيب محفوظ ببلاغته المعهودة.  فالطمأنينة الناتجة عن تفسيرات سحرية غرائبية أو عن فتاوى غيبية متألهة قد تمنح صاحبها سلامًا نفسيًا مؤقتًا، لكنها تُميت البصيرة وتجعل الإنسان خاضعًا لمشيئة غير مفهومة، وعاجزًا عن الفعل، ومنتظرًا للتغيير من السماء بينما أرضه تُسلب، وحاضره يُدمّر، ومستقبله يُختطف.

إن التعليم الذي لا يُنمي ملكة النقد، يُنتج مقلدين لا مبدعين، وأتباعًا لا مبادرين.  فإذا لم نربّ أبناءنا على السؤال، على التمحيص، على التجريب، فسنجعلهم نسخا باهتة، ونقدمهم ارقاما اضافية بلا قيمة وسط حشود وأشباه مجتمعات تنتج أوثانًا فكرية جديدة، يُعبد فيها الشيخ بدل العقل، والنص بدل المعنى، والقديم بدل المفيد.

فلنتأكد من تاريخ الإنسان ومن حاضره الذي نعيش ونعايش أنه “لا حرية حقيقية دون عقل مستقل”، ومن لا يملك عقلًا حرًا، لن يملك إرادة، ولن يكون فاعلًا في مجتمعه أو في مصيره.

وحين ننظر إلى حال الأمم، نجد أن المجتمعات التي تقدس التفكير الحر وتتقبله، هي التي تنهض، وتبتكر، وتكتشف، وتبني.  أما تلك التي تَسِمُ الشك بالكفر، والنقد بالتمرد، فهي التي تظل تدور في دوائر التخلف، تشتكي من العالم، وتلوم الآخرين، دون أن ترى أن مشكلتها الحقيقية كامنة في طريقة تفكيرها لا في الآخرين.

وما دام العقل غائبًا، والخرافة سيدة الموقف، فإننا لا نملك حق التذمر.  فكل ما لا يُفهم لا ينبغي أن يُتبع، وكل ما لا يُفسر لا يجوز أن يُقدّس.  علينا أن نُعيد الاعتبار للفكر العقلاني، أن نُربّي على الاستدلال، أن نُشجع السؤال، وأن نكفّ عن إهانة ملكة التفكير باسم الخشوع أو “الأدب مع التراث”.

لهذا كله نقول ونكرر ونعيد، وبكل حرقة وألم وأسف: “ارحموا عقول من في الأرض، يرحمكم من في السماء”.

فإهانة العقل ليست طاعة، بل خيانة.

وغض الطرف عن العلم ليس ورعًا، بل انحدار.  ومن لا يرحم عقول الناس لا يرحم نفسه، ولا يحترم إنسانيته، ولا يطور حياته حاضرا، ولا يؤمن احوال الاجيال مستقبلا.

وحين ينهض العقل، ينهض الإنسان.  لأن العقل ليس أداة رفاه، بل أداة كرامة ونجاة.  ومن لم يُحرر تفكيره من عبودية النقل، والتقليد، والخوف، فسيظل عبدًا، وإن ظن نفسه حرًا.  وليس أقسى على المرء من أن يعيش مستعبدًا لأفكار لا يُدرك مصدرها، ولا يستطيع نقدها، ولا يجرؤ على تجاوزها.

من هنا وجب أن نبدأ.

فبتحرير العقل، تُولد الرحمة، ثم تنتشر بوعي ورجاحة تفكير.

وبالعقل تُبنى المجتمعات، وتُصان الكرامة، ويُصبح الإيمان نفسه فعل وعي، لا مجرد تقليد أعمى ووراثة مفروضة.

فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

وأول ما بأنفسهم. عقولهم.

ارحموها بأن تحرروها وتحترموها وتكون لكم خير زاد. وأفضل معين. والنور الذي يسطع في ليل الظلمات.