مارك مجدي
الناشطية [أو Activism] كما شاع وصفها في الكتابات السياسية والاجتماعية الحديثة، هي ظاهرة سياسية برزت بشكل مكثف بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار المعسكر الاشتراكي التقليدي، لا سيما في ظل الفراغ الإيديولوجي الذي خلفه تراجع المشروع الشيوعي العالمي واهتزاز الثقة بالأحزاب ذات البنى العقائدية الصلبة.
ورغم أن أشكالا من النضال الجماعي والمقاومة كانت موجودة منذ قرون، من ثورات الفلاحين وانتفاضات العبيد إلى الحركات النسوية والنقابية، إلا أن ما تميزت به الناشطية المعاصرة هو انفصالها عن الأطر التنظيمية التقليدية، وتمحورها حول الفعل الاحتجاجي المباشر بوصفه وسيلة ومجالا وحيدا للتأثير.
فقد بدأنا نشهد بعد التسعينيات بروز فاعلين سياسيين لا يتحركون انطلاقا من انتماء حزبي أو مدرسة سياسية، بل من التزام فردي أو جمعي محدد تجاه قضية بعينها، سواء كانت الدفاع عن البيئة، أو مقاومة العنصرية، أو مناصرة حقوق المرأة والمثليين، أو التضامن مع الأقليات والمهاجرين. وهكذا تحوّل الحقل السياسي في كثير من البلدان إلى فسيفساء من المبادرات والحملات والحركات، معظمها يتبنى علاقات أفقية وشبكية في الفعل السياسي.
الناشطية بهذا المعنى باتت تعبر عن نمط من الفاعلية السياسية لا يقوم على بناء مشروع تحرري جذري أو برنامج سياسي محدد، بل على تحريك الوعي الرمزي والأخلاقي، وإنتاج ضجة إعلامية آنية تسعى للضغط على السلطات، دون أن يعني ذلك دائما امتلاك أدوات التغيير الفعلي. ويغلب على هذه النزعة الناشطية توظيف الأداء والتظاهر والتصوير والهاشتاغات، بحيث تُقاس فعالية الحدث بمدى انتشاره لا بمدى تأثيره المادي أو التشريعي. وهي ساحة تنخرط فيها فئات شبابية متعلمة، ذات نزعة نقدية فردانية، ترفض الانتماء الحزبي أو التراتبيات التقليدية، وتؤمن بأن الموقف الأخلاقي قد يكون كافيا لإحداث أثر سياسي.
هذا الشكل من الناشطية تعرض لنقد جذري من داخل الحقل اليساري، خاصة من قِبل فلاسفة مثل سلافوي جيجيك وآلان باديو ومن فلاسفة ماركسيين قح مثل جورج لابيكا، الذين رأوا فيها شكلا من أشكال اللاسياسة، لأنها تُجزئ الصراع الاجتماعي إلى قضايا جزئية معزولة، وتُفرغه من بعده الطبقي، وتُفرغ في الوقت نفسه من قابلية التنظيم والتراكم والتجذير. بل إنها، بحسب هذا النقد، كثيرا ما تُستوعب بسهولة داخل السوق النيوليبرالية، فتتحول إلى نمط من الاستهلاك الأخلاقي أو علامة تجارية على شكل موقف، بدلا من أن تكون جزءا من مشروع ثوري يطمح إلى تفكيك البنى الرأسمالية ذاتها.
في السياق العربي، اتخذت الناشطية طابعا خاصا تحكمه البنى السياسية والدينية والرمزية التي شكلت المجال العام، وقد بدا واضحا أن معظم أشكال الناشطية التي ظهرت في العقود الأخيرة، كانت قابلة للاختراق أو التوظيف من قبل جماعات الإسلام السياسي، التي امتلكت قدرة تنظيمية وتمويلية وشبكات اجتماعية مكنتها من التسلل إلى مختلف مساحات الفعل الاحتجاجي والمدني، بل وإعادة توجيهها بما يخدم مشروعها الأيديولوجي. لم يكن ذلك نتيجة براعة استراتيجية فحسب، بل أيضا بفعل غياب مشروع تقدمي متماسك قادر على احتضان الغضب الاجتماعي وتوجيهه ضمن أفق تحرري شامل، وهو ما جعل الفراغ يُملأ بشبكات دينية منظمة تستثمر في الرمز والاحتجاج والهوية.
النزعة اليسارية المتصدرة عالميا اليوم، هي نزعة يسار ناشطي احتجاجي ليبرتاري وليس اليسار الحزبي المنظم صوب مشروع تغير اقتصادي اجتماعي، وهو بذلك يفتقر الأسس الفكرية التي تحول دون أن يندمج مع مستهدفات التيار الأيدولوجي الغالب وهو التيار الإسلامي. بينما اليسار المنظم والذي يمتلك رؤية فكرية وسياسية ومشروع برنامجي وطني لقضايا المنطقة يغيب رغم وجوده الفعلي، بين الأصوات الناشطية الاحتجاجية، التي تلقت دفعة بفعل وسائل التواصل الاجتماعي وبفعل
الداعم الحقيقي للناشطية وهو الغرب الرأسمالي، دعم الغرب للناشطية كأداة مفضلة لترويض الحراك السياسي العالمي، إذ وجدت القوى الغربية، ولا سيما في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، في أشكال الناشطية غير المؤدلجة والجزئية بديلا مناسبا عن التيارات السياسية التي تحمل مشاريع تغيير واقعية وتعارض السياسات الإمبريالية والرأسمالية العالمية وتسعى لبناء تجارب تحرر وطني في العالم الثالث.
فقد شجعت المؤسسات الغربية، سواء من خلال التمويل أو التدريب أو احتضان المنظمات غير الحكومية، صعود نمط من الفاعلين الذين يتحركون في قضايا بيئية، جندرية، أو حقوقية، دون أن يتعرضوا بالبنية للاقتصاد السياسي العالمي أو لعلاقات التبعية البنيوية بين المركز الرأسمالي وأطرافه. هذا النوع من الدعم لم يكن محايدا، بل كان موجها بعناية ليُضعف قدرة القوى السياسية الجذرية على التنظيم والاستقطاب، ويُفرغ الاحتجاج من محتواه الراديكالي، ليُعاد تدويره في قنوات آمنة تحافظ على الاستقرار النيوليبرالي وتمنح وهم التغيير دون تهديد فعلي. وهكذا، أصبحت الناشطية، في كثير من حالاتها، جزءا من استراتيجية الهيمنة الغربية، يتم تمويلها وتمجيدها وتقديمها كصوت الضمير العالمي، بينما تُحاصر الأحزاب والحركات التي تسعى لتفكيك البنى القائمة، ويتم وصمها بالتطرف أو التهديد للأمن والسلم الدوليين.
وبالمناسبة فإن فشل حدث الاحتجاج الثوري في 25 يناير يرجع بالأساس لسيادة النزعة الناشطية على الحدث، إذ طغى الطابع الاحتجاجي العفوي والجزئي، المدفوع بأخلاقيات الغضب والرفض، على أي تصور نظري أو تنظيمي متماسك قادر على تحويل لحظة الانفجار الشعبي إلى مسار بناء بدائل سياسية تختلف عن تركيبة القوى بين القوى التقليدية السائدة، فسلمت السلطة عمليا للأخوان المسلمين. وهذا ما طرحه الصديق د.محمود فطين بعرض بديع في كتابه الرائع أشباح يناير.
في الحالة المصرية، كان ينبغي على التركيبة السياسية للحكم بعد 30 يونيو أن تعمل على التصفية السياسية لمثل هذا النوع من السياسة الناشطية، عبر دعم بناء حزبي متعدد الاتجاهات صوب تيارات سياسية لها رؤى سياسية برامجية واضحة، لم يحدث ذلك. وظل الصوت الزاعق هو صوت النشطاء وليس السياسيين، اللهم إلا في محاولات قليلة لم تُقتطف ثمار عملها بعد.
وعلى عكس ما قد يظن البعض، لست اقترح هنا عودة لما قبل الناشطية باسترجاع الشيوعية الدولية، لأنها حالة بنت سياق تاريخي صعب تكراره، لكن ما أبحث عنه كبديل للناشطية هو اليسار صاحب الخلفية الفكرية والتراث السياسي الممتد، ومعه الليبرالية الوطنية ذات التوجه المحدد نحو بناء شبكة داعمة الحقوق والحريات في المنطقة العربية. في إطار تحالف من القوى الوطنية والديمقراطية التي تدرك أن مهام تحديث المجتمعات العربية اقتصاديا وسياسيا وثقافيا هي المهام الأولى والأبرز، اي مهمة تحقيق الحداثة العربية الشاملة. وهي بذلك تيارات تكون معادية بنيويا للإسلام السياسي.
على أي حال، إذا نجح ترامب في تفكيك بنية النظام العولمي النابعة من الولايات المتحدة، فإن شبكة الدعم الدولية الناشطية ومركزها أمريكا ستتفكك، وسيصبح النمط الناشطي في حكم التاريخ. السؤال هنا، ما الذي سيحل محل الناشطية؟ في المنطقة العربية، ما لم تدرك الحكومات ضرورة دعم ظهور تيارات سياسية ثقافية في إطار مناخ منضبط، فإن الإسلاميين سيحتلوا ما ستتركه الناشطية من فراغ خلفها، ليندمج نموذج الناشط اندماجا كاملا بالإسلامي.