سقوط آخر قلاع الخلافة الإسلامية بقيادة الدولة العثمانية في تركيا على يد أتاتورك، فكان أن رفعت شعارات تعكس صدى ذلك الزلزال، مثل “الإسلام هو الحل” و”تطبيق الشريعة” و”الخلافة الراشدة”، وساهمت بقوة في مواجهة الاحتلال، لكن شعاراتها تلك كانت مباينة لعناوين دولة ما بعد الاستقلال، إذ ركزت هذه الأخيرة على قضايا الديمقراطية والتحديث وبناء الدولة المستقلة والاقتصاد الوطني والتعليم.
وفي انتظار يوم الزحف، اشتغلت الحركة الإسلامية على ورش التربية الداخلية لبناء جيل قادر على تحقيق مضامين تلك الشعارات، فكان طبيعيا أن تصدم بالسلطة الجديدة، خصوصا في الدول التي وقعت فيها انقلابات عسكرية، فدخلت مرحلة الابتلاء التي أضحت جزءا من ثقافة المريد المنخرط في هذه الحركات الإسلامية، وعكس أدب المحنة أو أدب السجون تلك المرحلة العصيبة من تاريخها.
داخل السجون التي عرفت تجاوزات رهيبة، حصلت مراجعات من الإسلاميين في اتجاهين :
ـ الاتجاه الأول: أفرز تيارا عنيفا تكفيريا رافضا للدولة والمجتمع، له أصوله وقواعده وآليات اشتغاله، وله سلفه أيضا من عمق التاريخ الإسلامي، هذا التيار العنيف بعد خروج بعض قادته من سجون عبد الناصر انتقل من التكفير إلى التفجير وضرب مصالح الدولة والمجتمع، ودام الصراع بينه وبين أجهزة الدولة القمعية عقودا قبل أن يقوم بمراجعات سلمية مكنت من إدماجه في النسيج الاجتماعي.
ـ الاتجاه الثاني الذي قام بمراجعات مبكرة، هو ما اصطلح عليه فيما بعد بالتيار الوسطي أو تيار “الإسلام السياسي”، وهو الأوسع حضورا في الساحة الإسلامية، قبل بروز التيار السلفي برعاية المملكة العربية السعودية، والذي عرف بدوره عدة تحولات، فالتيار السلفي انصب اهتمامه في البداية على التراث الإسلامي ترتيبا وتنقيحا وتصحيحا، وقام بدور بارز في إعادة الاعتبار لمركزية العقيدة وتنقيح العبادات من البدع والخرافات، لكن غلب على قراءته للنصوص الحرفية على حساب التوجيه المقاصدي، وهذا أدى إلى اختلالات في تعامله مع الحاكم المستبد، فحمل نصوص الطاعة على نهج المواقف القديمة في مساءلة الحاكم، أي تقديم النصح دون المعارضة التي تتيحها الممارسة الديمقراطية الحديثة، وشكل هذا الفقر في ثقافته السياسية ثغرة سمحت بخروج تيار عنيف من جبته، لا يرى من سبيل للتعبير عن مواقفه تجاه الأنظمة الاستبدادية إلا الجهاد المسلح، خصوصا أنه تمرّس على القتال في الجبهات المشتعلة في أفغانستان والشيشان والبوسنة واليمن والصومال والجزائر وسوريا اليوم.
تيار “الإسلام السياسي” الذي قام بمراجعات مبكرة، كان عنوانها الرئيسي المشاركة السياسية في ظل النظام العلماني بمؤسساته الديمقراطية، اكتشف أن العناوين التي رفعها التيار المدني من أجل بناء دولة ما بعد الاستقلال، ما هي إلا شعارات فارغة من أي مضمون، فلا ديمقراطية ولا حقوق الإنسان ولا كرامة ولا عدالة اجتماعية، بل عمل هذا التيار الذي جمع فئات من الوصوليين الليبراليين واليساريين والقوميين والعلمانيين على تزييف الحقائق، ومنح الشرعية للدولة المستبدة التي كان على رأسها العسكر، وتمّ اختراقه من جهات خارجية، وأيضا من المخابرات الداخلية، من أجل توظيفه غطاءً إيديولوجيا لتزييف الإرادة الشعبية وضرب أي معارضة حقيقية إسلامية أو غير إسلامية، تهدد المصالح المشتركة بين القوى الامبريالية المهيمنة والأنظمة الرجعية المتسلطة والقوى المتنفذة.
وفي سياق بلوغ الهيمنة والاستبداد أوجهما، وإغناء طبقة على حساب الفئات الشعبية المهمشة الواسعة، جاء الربيع العربي ـ وعموده الشباب ـ بهديره، ليسقط عروشا ويقلب أنظمة، مطالبا بإعادة توزيع الثروة على أسس العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والاستحقاق، وإعادة بناء الدولة على أسس ديمقراطية حقيقية تسمح بمشاركة شعبية تفرز سلطة من داخل صناديق الاقتراع، كما هو الشأن في الدول الديمقراطية العريقة.
لم تجد هذه الشعوب الغاضبة أمامها من يحقق تطلعاتها تلك إلا التنظيمات والأحزاب الإسلامية التي كانت مضطهدة ومقصية من السلطة، والتي اشتغلت على سياسة القرب من الطبقات الشعبية تحمل همومها لعقود من الزمن، ما سمح لها بالتغلغل في النسيج الاجتماعي، وجعلها تستعصي على الاستئصال، فحملتها رياح الربيع العربي إلى السلطة، لكنها اصطدمت بواقع الدولة العميقة التي تمثل روح الاستبداد، والتي تشكلت عبر عقود منذ تصدير الاستعمار للبيروقراطية ووسائل القمع متمثلة في الجيش والشرطة وجهاز المخابرات، هذه الأدوات المحايدة في الدول الديمقراطية، والتي تتحدد مهمتها في الدفاع عن الوطن ضد أي تهديد أجنبي أو إرساء الأمن الداخلي، أصبحت لها ـ في الدول المتخلفة ـ اليد النافدة في السياسة والإعلام والقضاء، وخصوصا في الاقتصاد، حيث تزاوجت السلطة بالمال، وتمّ توظيف الدين في معركة تثبيت أركان الدولة العميقة، ليعود بذلك الثالوث الرهيب: فرعون وهامان وقارون.
لقد تبيّن بما لا يدع مجالا للشك أن ضريبة المشاركة السياسية في ظل النظم القائمة أكبر بكثير من تلك التي تؤديها التنظيمات الرافضة لأي مشاركة سياسية، وتكتفي بنقد الأوضاع وببعض الخرجات الجماهيرية بين الفينة والأخرى، ذلك أن رياح الديمقراطية العاتية التي تضرب المنطقة تفرض على تلك النظم المستبدة أن تفتح نوافذها ولو بمقدار، ما يسمح بتسلل أحزاب غير مرغوب فيها للمشاركة في تدبير الشأن العام، وهي أحزاب غير متحكم فيها بالقدر الذي يسمح بإدماجها في لعبة المصالح المتبادلة، فتنقلب عليها الدولة العميقة المعيقة لتطور المجتمع، وتعود لقمعها إن استطاعت.
من جهة أخرى أبانت تجربة مصر ما بعد الربيع العربي أن سقوط رأس الدولة لا يعني سقوط الاستبداد، لأن الدولة العميقة هي الراعية للاستبداد، وما رأس السلطة إلا أحد آليات اشتغالها، فتفكيك بنية الاستبداد رهين بفصل جهاز القمع وجهاز القضاء عن التوظيف السياسي، وهذا الفصل لن يتمّ بالعنف لأن من يمارس العنف يدخل إلى مربع تلك الدولة القائمة على العنف المتمرسة عليه، فيعطيها المبرّر، ليس لضربه هو فحسب، ولكن لضرب مكتسبات المجتمع في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة.
إن التجربة الحديثة تقدم نموذجين مختلفين استطاعت فيهما المعارضة أن تفكك بنية الدولة العميقة بالرغم من شراستها: النموذج الإيراني الذي قضى، من خلال ثورة شعبية،على دولة الشاه الاستبدادية، لكنه لم يرس دعائم الدولة الديمقراطية الحديثة، بل بقي حبيسا للنزعات الطائفية المتغذية من الصراعات التاريخية، الشيء الذي عرّضه لخصومات إقليمية ودولية.
النموذج الثاني يقدمه حزب العدالة والتنمية التركي الذي قام بثورة ناعمة على بنية الاستبداد، وأرسى دعائم اقتصاد حر وقوي، واشتغل من داخل النظام العلماني بعد صراع طويل ومرير مع الدولة العميقة دام أربعة عقود، وهو نموذج واعد.
وفي انتظار يوم الزحف، اشتغلت الحركة الإسلامية على ورش التربية الداخلية لبناء جيل قادر على تحقيق مضامين تلك الشعارات، فكان طبيعيا أن تصدم بالسلطة الجديدة، خصوصا في الدول التي وقعت فيها انقلابات عسكرية، فدخلت مرحلة الابتلاء التي أضحت جزءا من ثقافة المريد المنخرط في هذه الحركات الإسلامية، وعكس أدب المحنة أو أدب السجون تلك المرحلة العصيبة من تاريخها.
داخل السجون التي عرفت تجاوزات رهيبة، حصلت مراجعات من الإسلاميين في اتجاهين :
ـ الاتجاه الأول: أفرز تيارا عنيفا تكفيريا رافضا للدولة والمجتمع، له أصوله وقواعده وآليات اشتغاله، وله سلفه أيضا من عمق التاريخ الإسلامي، هذا التيار العنيف بعد خروج بعض قادته من سجون عبد الناصر انتقل من التكفير إلى التفجير وضرب مصالح الدولة والمجتمع، ودام الصراع بينه وبين أجهزة الدولة القمعية عقودا قبل أن يقوم بمراجعات سلمية مكنت من إدماجه في النسيج الاجتماعي.
ـ الاتجاه الثاني الذي قام بمراجعات مبكرة، هو ما اصطلح عليه فيما بعد بالتيار الوسطي أو تيار “الإسلام السياسي”، وهو الأوسع حضورا في الساحة الإسلامية، قبل بروز التيار السلفي برعاية المملكة العربية السعودية، والذي عرف بدوره عدة تحولات، فالتيار السلفي انصب اهتمامه في البداية على التراث الإسلامي ترتيبا وتنقيحا وتصحيحا، وقام بدور بارز في إعادة الاعتبار لمركزية العقيدة وتنقيح العبادات من البدع والخرافات، لكن غلب على قراءته للنصوص الحرفية على حساب التوجيه المقاصدي، وهذا أدى إلى اختلالات في تعامله مع الحاكم المستبد، فحمل نصوص الطاعة على نهج المواقف القديمة في مساءلة الحاكم، أي تقديم النصح دون المعارضة التي تتيحها الممارسة الديمقراطية الحديثة، وشكل هذا الفقر في ثقافته السياسية ثغرة سمحت بخروج تيار عنيف من جبته، لا يرى من سبيل للتعبير عن مواقفه تجاه الأنظمة الاستبدادية إلا الجهاد المسلح، خصوصا أنه تمرّس على القتال في الجبهات المشتعلة في أفغانستان والشيشان والبوسنة واليمن والصومال والجزائر وسوريا اليوم.
تيار “الإسلام السياسي” الذي قام بمراجعات مبكرة، كان عنوانها الرئيسي المشاركة السياسية في ظل النظام العلماني بمؤسساته الديمقراطية، اكتشف أن العناوين التي رفعها التيار المدني من أجل بناء دولة ما بعد الاستقلال، ما هي إلا شعارات فارغة من أي مضمون، فلا ديمقراطية ولا حقوق الإنسان ولا كرامة ولا عدالة اجتماعية، بل عمل هذا التيار الذي جمع فئات من الوصوليين الليبراليين واليساريين والقوميين والعلمانيين على تزييف الحقائق، ومنح الشرعية للدولة المستبدة التي كان على رأسها العسكر، وتمّ اختراقه من جهات خارجية، وأيضا من المخابرات الداخلية، من أجل توظيفه غطاءً إيديولوجيا لتزييف الإرادة الشعبية وضرب أي معارضة حقيقية إسلامية أو غير إسلامية، تهدد المصالح المشتركة بين القوى الامبريالية المهيمنة والأنظمة الرجعية المتسلطة والقوى المتنفذة.
وفي سياق بلوغ الهيمنة والاستبداد أوجهما، وإغناء طبقة على حساب الفئات الشعبية المهمشة الواسعة، جاء الربيع العربي ـ وعموده الشباب ـ بهديره، ليسقط عروشا ويقلب أنظمة، مطالبا بإعادة توزيع الثروة على أسس العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والاستحقاق، وإعادة بناء الدولة على أسس ديمقراطية حقيقية تسمح بمشاركة شعبية تفرز سلطة من داخل صناديق الاقتراع، كما هو الشأن في الدول الديمقراطية العريقة.
لم تجد هذه الشعوب الغاضبة أمامها من يحقق تطلعاتها تلك إلا التنظيمات والأحزاب الإسلامية التي كانت مضطهدة ومقصية من السلطة، والتي اشتغلت على سياسة القرب من الطبقات الشعبية تحمل همومها لعقود من الزمن، ما سمح لها بالتغلغل في النسيج الاجتماعي، وجعلها تستعصي على الاستئصال، فحملتها رياح الربيع العربي إلى السلطة، لكنها اصطدمت بواقع الدولة العميقة التي تمثل روح الاستبداد، والتي تشكلت عبر عقود منذ تصدير الاستعمار للبيروقراطية ووسائل القمع متمثلة في الجيش والشرطة وجهاز المخابرات، هذه الأدوات المحايدة في الدول الديمقراطية، والتي تتحدد مهمتها في الدفاع عن الوطن ضد أي تهديد أجنبي أو إرساء الأمن الداخلي، أصبحت لها ـ في الدول المتخلفة ـ اليد النافدة في السياسة والإعلام والقضاء، وخصوصا في الاقتصاد، حيث تزاوجت السلطة بالمال، وتمّ توظيف الدين في معركة تثبيت أركان الدولة العميقة، ليعود بذلك الثالوث الرهيب: فرعون وهامان وقارون.
لقد تبيّن بما لا يدع مجالا للشك أن ضريبة المشاركة السياسية في ظل النظم القائمة أكبر بكثير من تلك التي تؤديها التنظيمات الرافضة لأي مشاركة سياسية، وتكتفي بنقد الأوضاع وببعض الخرجات الجماهيرية بين الفينة والأخرى، ذلك أن رياح الديمقراطية العاتية التي تضرب المنطقة تفرض على تلك النظم المستبدة أن تفتح نوافذها ولو بمقدار، ما يسمح بتسلل أحزاب غير مرغوب فيها للمشاركة في تدبير الشأن العام، وهي أحزاب غير متحكم فيها بالقدر الذي يسمح بإدماجها في لعبة المصالح المتبادلة، فتنقلب عليها الدولة العميقة المعيقة لتطور المجتمع، وتعود لقمعها إن استطاعت.
من جهة أخرى أبانت تجربة مصر ما بعد الربيع العربي أن سقوط رأس الدولة لا يعني سقوط الاستبداد، لأن الدولة العميقة هي الراعية للاستبداد، وما رأس السلطة إلا أحد آليات اشتغالها، فتفكيك بنية الاستبداد رهين بفصل جهاز القمع وجهاز القضاء عن التوظيف السياسي، وهذا الفصل لن يتمّ بالعنف لأن من يمارس العنف يدخل إلى مربع تلك الدولة القائمة على العنف المتمرسة عليه، فيعطيها المبرّر، ليس لضربه هو فحسب، ولكن لضرب مكتسبات المجتمع في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة.
إن التجربة الحديثة تقدم نموذجين مختلفين استطاعت فيهما المعارضة أن تفكك بنية الدولة العميقة بالرغم من شراستها: النموذج الإيراني الذي قضى، من خلال ثورة شعبية،على دولة الشاه الاستبدادية، لكنه لم يرس دعائم الدولة الديمقراطية الحديثة، بل بقي حبيسا للنزعات الطائفية المتغذية من الصراعات التاريخية، الشيء الذي عرّضه لخصومات إقليمية ودولية.
النموذج الثاني يقدمه حزب العدالة والتنمية التركي الذي قام بثورة ناعمة على بنية الاستبداد، وأرسى دعائم اقتصاد حر وقوي، واشتغل من داخل النظام العلماني بعد صراع طويل ومرير مع الدولة العميقة دام أربعة عقود، وهو نموذج واعد.
Source : https://dinpresse.net/?p=2670