27 مايو 2025 / 09:54

في جدلية الوحي والسياسة: نحو فهم تاريخي فلسفي للنبوة عند هشام جعيّط

بومحمد عبد الرحمن
يشكّل كتاب النبوة والسياسة لهشام جعيّط مساهمة نوعية في تفكيك البنية التقليدية للخطاب الديني الإسلامي، عبر استعادة النبوة كواقعة تاريخية متعددة الأبعاد، لا كمعطى دوغمائي خارج الزمن. ينخرط جعيّط ضمن مشروع نقد العقل العربي-الإسلامي من زاوية غير مألوفة: إعادة تأويل النبوة باعتبارها ظاهرة روحية-اجتماعية تشكّلت ضمن سياق حضاري معيّن، بعيدًا عن القراءة التمجيدية أو الخطاب العقدي المغلق.
لاينفي جعيّط البعد الغيبي للوحي، بل يقترح فهماً مركبًا له، بوصفه تجربة وجودية ذات حمولة رمزية مكثفة، نشأت ضمن شروط نفسية وثقافية وتاريخية متداخلة. فالنبي، بحسب جعيّط، لم يكن ناقلاً سلبيًا لرسالة مكتملة مسبقًا، بل فاعلًا في إنتاج المعنى، عبر تفاعل روحي عميق مع البنية اللاهوتية المتعالية. يتقاطع هذا التصور مع بعض الأطروحات الحديثة في فلسفة الدين التي ترى في الوحي فعلاً تأويليًا أكثر منه خطابًا منزّلاً في انفصال تام عن التاريخ.
يركّز جعيّط على الطور المديني للنبوة، حيث شهدت الرسالة المحمدية انتقالًا من دعوة أخلاقية-روحانية إلى ممارسة سياسية فعلية. في هذا السياق، تظهر النبوة لا كسلطة رمزية فحسب، بل كمنظومة تأسيسية للسيادة، تؤسس شرعيتها من خلال الجمع بين المقدّس والمؤسسي. فالنبي هنا، ليس مجرد وسيط للوحي، بل أيضًا فاعل سياسي واجتماعي يُعيد تشكيل الخارطة القيمية والسلطوية للفضاء العربي الإسلامي الناشئ.
بعد وفاة النبي، واجهت الجماعة الإسلامية سؤالًا وجوديًا: كيف تُمارَس السلطة في غياب الوحي؟ وهنا يكشف جعيّط عن المفارقة الجوهرية: السياسة الإسلامية لم تكن امتدادًا للنبوة، بل كانت تأويلاً بشريًا لها، أي ترجمة ظرفية لمبدأ الوحي ضمن شروط واقعية متغيرة. ومن هذا المنظور، تصبح الخلافة لحظة قطيعة لا لحظة استمرار، بما أنها تستند إلى الإجماع أو الشوكة أو الغلبة، وليس إلى شرعية نبوية مباشرة.
يدعو جعيّط إلى تحرير صورة النبي من التصورات الأسطورية التي كرّستها الذاكرة الجماعية عبر القرون، دون أن يعني ذلك النيل من رمزيته أو مكانته. إن ما يقترحه هو عودة إلى “النبي التاريخي”، الإنسان-المؤسس، الذي خاض تجربة روحية عميقة وأسس مشروعًا حضاريًا، لا المخلوق المعزول في فضاء أسطوري منزّه عن الفعل الإنساني. وهذا المنظور لا يعارض الإيمان، بل يطلب تعقيله وتاريخنته، بما يُعيد للنبوة بعدها الإنساني دون إفراغها من معناها الروحي.