21 مايو 2025 / 09:57

نحو مقاربة متعددة الأبعاد للإسلام: الخطاب المؤسس والمقاربة الأكاديمية التاريخية والفهم الفينومينولوجي

إبراهيم بجنيخ
هل يمكن فهم الإسلام بمعزل عن الرواية الرسمية التي تهيمن على الوعي الإسلامي المعاصر؟
وهل من الممكن إعادة بناء تصوّر جديد عن الإسلام المبكر من خارج النصوص التي كتبت بعد زمن من لحظة التأسيس؟
هذه الأسئلة لا تسعى إلى التشكيك، بل إلى إعادة ترتيب أولويات المقاربة الأكاديمية. كثير من الباحثين تعاملوا مع الرواية الإسلامية بوصفها الإطار الوحيد الممكن لفهم نشأة الإسلام، فاقتصر جهدهم على تأويل مضامينها دون مساءلة شروط إنتاجها، ولا التحقق من المسافة الزمنية الفاصلة بين الحدث وسرده.
الرواية الرسمية كُتبت في سياق لاحق، سياسي ومذهبي وثقافي، ما يجعلها جزءًا من إيديولوجيا لاحقة أكثر من كونها توثيقًا محايدًا للوقائع. الباحثون الذين اشتغلوا ضمن هذا الإطار، كجعيط وغيره، لم يخرجوا عن النص، بل فسروا مضمونه استنادًا إلى مرجعيته الداخلية، وغالبًا ما استُقبلت قراءاتهم بوصفها محايدة، مع أنها في الجوهر قراءة من داخل بنية الخطاب لا من خارجه.
أما المقاربة البديلة، فتكمن في استنطاق المصادر غير الإسلامية المعاصرة للقرن السابع والثامن الميلادي، بما فيها الوثائق السريانية والبيزنطية والآرامية، إضافة إلى مناهج البحث الأركيولوجي واللساني والفيلولوجي. هذه المصادر تُضيء فجوات زمنية محيرة، تتعلق بزمن النبوة، وتدوين القرآن، وبناء الدولة الإسلامية الأولى، في مقابل التدوين المتأخر الذي شكل أساس السردية الكلاسيكية.
هذا الخلط بين تفسير الرواية وفحصها كمصدر تاريخي مستقل يؤدي إلى انطباع خاطئ: أن كل قراءة ناقدة لا تخرج عن إطار التوافق الضمني مع الرواية الرسمية. الباحث يستطيع بناء تأويلات اجتماعية أو نظرية سياسية عن الإسلام انطلاقًا من هذه الروايات، لكنها تظل تأويلات تستند إلى نصوص وصلت إلينا دون مساءلة بنيتها وشروط تشكلها.
حاول عزيز العظمة، في بعض أعماله، كسر هذا القيد المنهجي، بفتح المجال أمام مساءلة شاملة للخطاب الإسلامي التأسيسي. لكنه، أيضًا، أشار إلى أن الاشتغال الأكاديمي على الإسلام لا يمكن أن يبقى محصورًا في الإطار التاريخي التنقيحي.
فالإسلام ليس مجرد وقائع أو عقائد، بل هو ظاهرة ثقافية كبرى، تشكلت بوصفها نظامًا للمعنى، وإطارًا للانتماء، ومجالًا حيًا للوعي الإنساني. هنا تبرز ضرورة المقاربة الفينومينولوجية، لفهم الإسلام لا كمجموعة أحداث، بل كطور أساسي من أطوار الوعي البشري.
لا يمكن النظر إلى الإسلام بوصفه فقط دينًا ظهر في لحظة تاريخية. الإسلام، كظاهرة، تشكل في عمق الوعي الإنساني، وفرض حضوره كقوة روحية وثقافية تتجاوز الحدث الذي أنشأها. لقد تحوّل إلى لحظة نوعية في تاريخ تشكّل الوعي، طورًا من أطوار الإدراك الجماعي، لم يتجاوزه العالم حتى اليوم، وإن شهد تحولات فكرية وعلمية كبرى.
أنتجت الحضارة العربية الإسلامية، عبر سيرورة طويلة، رؤى كونية، وأخلاقيات للعيش، وأطر عقلية أثّرت بعمق، وما زالت تبهر الغرب، مع أنه بلغ ذروة التجريب العلمي. هذا التأثير لا يُفسَّر فقط بالوقائع، بل بكون الإسلام شكّل لحظة وعي مكتملة، لها بنيتها ومرجعياتها، تمامًا كما تحدث هيغل عن “فينومينولوجيا الروح” التي تمر عبر مراحل كبرى ينتقل فيها الوعي الإنساني من طور إلى آخر.
في هذا الإطار، يمكن فهم الإسلام كطور من هذه الأطوار، لحظة لم تُستنفد بعد، بل ما زلنا نعيد إنتاجها بأشكال مختلفة، عبر الفكر، والسياسة، والهوية، والدين. الإسلام هنا ليس فقط معتقدًا، بل لحظة إدراكية وإنسانية، تحوّلت إلى مرآة للفكر، وقالب للثقافة، وأفق للتأمل.
السؤال اليوم ليس حول “الحقيقة” التاريخية، بل حول إمكانات الفهم. فهل نمتلك، فعلاً، أدوات القراءة التي تتيح لنا هذا الفهم المتعدد؟ هل نجرؤ على التعامل مع الإسلام كمادة فكرية وروحية، لها تاريخ، ولها أيضًا وعي يتجاوز التاريخ؟