19 مايو 2025 / 23:02

من خالف “الإمام” أفسد “المقصد”..

عمر العمري
يندرج قرار الملك محمد السادس، بصفته أميرا للمومنين، القاضي بترك شعيرة الأضحية هذا العام في إطار “اجتهاد سيادي” يعكس عمق “فقه الإمامة” ووعي الدولة بحجم التحديات الاقتصادية والاجتماعية الراهنة، ويأتي استحضارا لمقاصد الشريعة في ترشيد الموارد وصون المصلحة العامة، إذ لا تنفصل الشعائر في التصور المقاصدي عن شروطها الموضوعية ولا عن أثرها في الناس والبلاد.

وتعد الأضحية شعيرة مرتبطة بشرط الاستطاعة، هذه الاستطاعة لا تقاس بمقدرة الفرد المالية وحدها، وإنما تشمل في سياق الشأن العام قدرة الأمة على تحمل التبعات الاجتماعية والاقتصادية المترتبة عن ممارستها في ظرفية دقيقة، وهو ما يجعل من تدخل “الإمام” لتقييدها ممارسة مشروعة لولاية شرعية قائمة على البيعة والاجتهاد في النوازل.

ولا يتنافى هذا الاجتهاد مع روح الدين، إذ يتناغم مع فقه المآلات وترتيب الأولويات، حيث تقدم المصلحة العامة عند التعارض، ويراعى السياق في تنزيل الأحكام، فلا تؤخذ النصوص مجتزأة من عللها، ولا تفصل الطقوس عن أثرها الواقعي، لأن “الطاعة” في هذه المواطن إنما هي صورة من صور التدين الجماعي والامتثال لمقاصد الشرع.

ومن المؤسف أن ترتفع أصوات تدعو إلى تجاوز هذا التوجيه بذريعة التمسك بـ”السنة” أو الإصرار على “الذبح سرا”، دون مراعاة للظرف القائم أو تقدير لمشروعية الاجتهاد، فالشريعة لم توضع لتتوقف عند ظاهر النصوص، بل لتفعل بروح العقل والرحمة وتحقيق المصلحة، ومن هذا المنظور لا يعد الامتثال لقرار “الإمام” تخليا عن الشعيرة، وهو على عكس من ذلك يمثل درجة أعمق من الوعي، تعيد للأضحية معناها الحقيقي، وتحولها من ممارسة شكلية إلى فعل تضامن، ومن مظهر احتفالي إلى قيمة تكافلية.

وحين يضحي “الإمام” عن شعبه، ويعلن أن الأجر حاصل والحرج مرفوع، فإنما يستند إلى ما قرره القرآن الكريم من أن التقوى لا تنحصر في لحوم الأنعام ولا في طقوس الذبح، وإنما تنعقد في النية وتقاس بالمقصد، “لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم” (قران كريم)، وهنا تتجسد إمارة المؤمنين كمرجعية شرعية تنبع من صميم الشريعة، وتفعل أحكامها في ضوء الواقع، وتتجه بالعقل الفقهي نحو تأمين المصلحة، دون أن تنفصل عن روح النص أو تتجمد في صورته.

ويعد الالتزام بهذا التوجيه مظهرا من مظاهر الوفاء للبيعة وتجديدا للثقة في نظر “الإمام”، الذي يجمع بين فقه الشريعة (الدين) واستبصار الدولة (السياسة)، ويزن الأمور بميزان المصلحة، فلا يترك الناس لأهوائهم، ولا يساير المزايدات باسم الدين، لكن يسوس الأمة بعقل ورفق وحكمة.

فمن فهم السياق وأخلص النية، فقد نال أجر الشعيرة بطاعة “الإمام،” ومن خالف باسم “السنة” أو تحت أي ذريعة أخرى (شهوة الأكل)، وهو يجهل المقاصد، فقد فوت الحكمة وأسقط التدين في الفوضى، وأساء الظن بالشريعة التي وضعت لصيانة النفس والمجتمع لا لتعريضهما للخطر.

ويشكل قرار “إمارة المومنين” في هذه النازلة تصرفا من “تصرفات الإمامة”، يفعل ولاية النظر في النوازل العامة، ويجسد فقه التدبير الشرعي حين تتقاطع الشعائر مع المصلحة، ويؤكد على أصالة المرجعية المغربية في تنزيل أحكام الدين بميزان العقل، وتوجيهها بما يضمن استقرار الأمة، ويجعل من الدين قوة مؤسِّسة للحكم لا عبئا على الدولة أو عائقا أمام واقعها المتغير..