16 مايو 2025 / 18:38

العائق الإبستمولوجي في الفكر الوهابي: عرض أولي

العائق الإبستمولوجي في الفكر الوهابي: نحو قطيعة معرفية تُحرر الفهم الديني من أسر الماضوية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ

شكّل الفكر الوهابي كما تبلور في شبه الجزيرة العربية خلال القرن الثامن عشر، عودة صارمة إلى مقولات التراث السلفي في أكثر صوره حرفية ونصوصية…، هذا التيار ببنيته المغلقة على ظاهر النص ورفضه للتأويل، قدّم نموذجًا لما يُمكن تسميته بالعائق الإبستمولوجي، بحسب تعريف “باشلار”، حيث تصبح بعض البنى المعرفية – بدل أن تكون أدوات للفهم – عوائق تمنع التجدد والتطور داخل الحقل الديني.

1- بنية العائق: حين يصبح النص مطلقًا

يقوم العائق الإبستمولوجي في الفكر الوهابي على مركزية الفهم الحرفي للنصوص الدينية، ثم يُرفض التأويل، ويُقصى البعد المقاصدي والرمزي للخطاب الشرعي، ويتجلى هذا في ذهنية تُقدّس الفهم الأول وتجرّم كل خروج عنه، معتبرة أن الحق قد اكتمل وانتهى بفهم السلف.

ولعل من الأمثلة الدالة على هذا المنهج: الموقف من الاحتفال بالمولد النبوي، والذي يُعدّ في نظر هذا التيار “بدعة محدثة”، رغم أن جوهره لا يتعدى التعبير عن محبة النبي ﷺ واستحضار سيرته، هذا الرفض لم ينبثق من دراسة مقاصدية، وإنما من تمسك حرفي بعبارة “كل محدثة بدعة”، دون النظر في السياق المقاصدي أو البعد التربوي الذي يتضمنه هذا الاحتفال، كما أشار إلى ذلك الشيخ محمد متولي الشعراوي وغيره من علماء المقاصد.

2- الرفض المنهجي للقطيعة: اجترار بدل توليد

يُمثّل الفكر الوهابي قطيعة مع إمكان القطيعة نفسها؛ فهو يرفض كل محاولة لفهم النصوص في ضوء المتغيرات، ويتمسك باستعادة “نقاء” الدين كما كان في القرون الأولى، متجاهلًا أن التاريخ نفسه قد تغيّر، بدل أن ينتج معرفة دينية متجددة يعيد إنتاج الموروث من خلال اجترار لا توليد.

ويتجلى هذا بوضوح في موقف هذا الفكر من تعليم المرأة، الذي قوبل بمعارضة شديدة في بداياته، واعتُبر خروج المرأة من بيتها “فتنة”، رغم عدم وجود نص قاطع يمنع ذلك.
وقد عارض مفتي المملكة السابق الشيخ ابن باز – في البداية – فتح مدارس البنات، قبل أن تتغير الفتوى لاحقًا تحت ضغط التحولات الاجتماعية.
بهذا، فإن العائق لا يكمُن في النص بل في آليات الفهم التقليدية له.

3- أثر العائق على الواقع الإسلامي: إقصاء التجديد وتجميد الفكر(الدوغمائية)

نتج عن هذا العائق المعرفي جمود فكري في البيئات المتأثرة بالفكر الوهابي، حيث تمت محاصرة الفلسفة والتصوف والمقاصد؛ فأصبحت العلوم الدينية معزولة عن التساؤل، وتحول الدين إلى منظومة من الأوامر والنواهي المنفصلة عن الروح، بل وصلت الأمور إلى تحريم المنطق والفلسفة، رغم أنهما كانا جزءًا أصيلًا من ازدهار الحضارة الإسلامية في فترات سابقة…،والأمثلة على ذلك تتجلى في مناهج التعليم الديني على سبيل الذكر:
تم إقصاء كل ما يمت إلى الفكر النقدي أو الفلسفي بصلة الأمر الذي خلق ذهنية تتوجس من كل تفكير جديد، وقد أشار الباحث عبد الله الغذامي إلى هذه الظاهرة بوصفها انغلاقًا معرفيًا يرفض التحديث باسم المحافظة على “نقاء الدين”.

4- نماذج واقعية: بين الفتوى والتحديث

أ. “قيادة المرأة للسيارة”: رُفض هذا الحق طويلًا بذريعة “الاختلاط والفتنة”، دون سند شرعي واضح، بل بالاستناد إلى تصورات ماضوية أُلبست لباس القداسة! وقد أُبطل هذا المنع لاحقًا بقرار سياسي عام 2018، ما يعكس هشاشة الأساس الفقهي الذي بُني عليه.

ب. “تحريم التلفزيون”: في ثمانينات القرن الماضي، كانت فتاوى التحريم تصدر بحق من يقتني جهاز تلفزيون، باعتباره “أداة للفساد”، و هذا الموقف لم يكن سوى تعبير عن ذهنية تُعادي كل جديد تحت ستار الحفاظ على الدين، رغم غياب أي نص يمنع استخدام هذه الوسائل.

5- الحاجة إلى القطيعة: تحرير الفهم بلا رفض التراث

لا تعني القطيعة الإبستمولوجية نسف التراث، وإنما تعني نقد بنيته وتفكيك سلطته على الحاضر. والمطلوب هو استعادة الفهم التأويلي، وإحياء المقاصد، والانفتاح على أدوات الفلسفة والمعرفة الحديثة، كما حاول بعض المفكرين الكبار فعله:

-طه عبد الرحمن: أعاد بناء الفهم الديني انطلاقًا من منطق أخلاقي داخلي، يتوسل بالحدس والتجربة الوجدانية.
-يوسف القرضاوي: دعا إلى تحرير العقل الإسلامي من سلطة اللاهوت المغلق، واستعادة روح الشك المنهجي كأداة تحليلية.

والجدير بالذكر، فإن القطيعة الإبستمولوجية ليست تمردًا على الماضي، وإنما فعل نقدي يهدف إلى تحرير الحاضر من قبضة التقليد، والفكر الوهابي، بما يمثله من نموذج للجمود والتكرار، يُظهر ضرورة هذا التحول.
فبدون مراجعة جذرية للمناهج الدينية، ودمج العلوم التأويلية والفلسفية والنقدية في تكوين العلماء، سيبقى الفكر الديني يدور في حلقة مفرغة من الاجترار.
وأخيرا، فالنهضة لا تبدأ بقرار سياسي، بل بإرادة فكرية تجرؤ على النقد، وتؤمن بأن للإسلام طاقة متجددة لا تكتمل إلا بتحريره من العوائق التي كبّلته.

✍🏾محمد دام بجان