8 مايو 2025 / 21:49

ليو الرابع عشر: من هوامش بيرو إلى قمة الفاتيكان

أعلن الفاتيكان اليوم عن انتخاب الكاردينال الأميركي روبرت فرانسيس بريفوست بابا جديدا للكنيسة، ليصبح الحبر الأعظم رقم 267 في تاريخ المؤسسة البابوية، ويتخذ اسم “ليو الرابع عشر”، في اختيار حمل من الدلالات أكثر مما حمل من المفاجآت.

بريفوست، البالغ من العمر 69 عاما، هو أول أميركي يتولى كرسي بطرس، ويمثل في العمق نموذجا كنسيا هجينيا يجمع بين الانتماء إلى الولايات المتحدة، والتجذر الرعوي في أمريكا اللاتينية، حيث أمضى معظم حياته الكنسية مبشرا وأسقفا في بيرو.

ولد في شيكاغو سنة 1955 لأسرة ذات أصول إسبانية وإيطالية، وتتلمذ في جامعة فيلانوفا وجامعة الاتحاد اللاهوتي الكاثوليكي، ثم حصل على شهادة الدكتوراه في القانون الكنسي من الجامعة البابوية للقديس توما الأكويني في روما، وهو ما منحه قدرة نادرة على الجمع بين العمق اللاهوتي والكفاءة الإدارية.

لكن الأهم في مسيرة البابا الجديد أنه لم يأت من قلب المؤسسات الأمريكية الكبرى، بل من الهامش الكنسي في أميركا اللاتينية، حيث خدم الفقراء والمهمشين، وأسس حضوره كراع قريب من الناس، حريص على العمل الميداني، رافض لسلطة منفصلة عن الواقع، وهو ما تجلى في تصريح له قبل انتخابه حين قال: “السلطة التي نملكها هي سلطة الخدمة، لا سلطان التسلّط، نحن هنا لنتقدم مع الكهنة، لا لنأمرهم”.

وتولى بريفوست مناصب وازنة داخل الفاتيكان، أبرزها رئاسته لمجمع الأساقفة، حيث لعب دورا أساسيا في رسم سياسات تعيين القيادات الكنسية حول العالم، وشارك في عملية إعادة هيكلة عميقة لهذا الجهاز الحساس، بل وكان أول من عين نساء ضمن فريق تقييم الأساقفة، في سابقة تاريخية داخل المؤسسة الكنسية.

ورغم قربه من دوائر القرار البابوي، فقد حافظ على حضور خافت، بعيد عن الأضواء، ما جعل مواقفه في بعض القضايا الساخنة غير معروفة بدقة، وإن كانت إشاراته العامة توحي بتقارب مع رؤى سلفه البابا فرنسيس، خاصة في ملفات الهجرة، العدالة الاجتماعية، والبيئة.

وفي لحظة ظهوره الأول من شرفة كنيسة القديس بطرس، خاطب بريفوست الحشود بكلمات: “السلام معكم جميعا. فلنكن يدا في يد، مع الله ومن أجل العالم. نحن تلاميذ المسيح، والمسيح يسبقنا”، مستحضرا روح القيامة وميراث البابا فرنسيس الذي قال عنه: “ما تزال ترنّ في آذاننا تلك النبرة الواهنة الشجاعة، التي كانت تباركنا رغم المرض، لقد كان رسول سلام حقيقي”.

واختياره اسم “ليو الرابع عشر” هو إشارة واعية إلى ليو الثالث عشر، بابا أواخر القرن التاسع عشر، الذي أحدث ثورة اجتماعية ولاهوتية عميقة برسالته الشهيرة “الأشياء الجديدة”، فاتحا أبواب الكنيسة على قضايا العمال والعدالة، ومن المرجح أن يحمل هذا الاسم تلميحا إلى نية مواصلة مسار الإصلاح والانفتاح، دون قطيعة أو رجعة إلى الوراء.

وبقدر ما كان انتخابه مباغتا لدى البعض، بقدر ما كان نتيجة منطقية لمجموعة من التراكمات داخل الكنيسة، خصوصا أن أكثر من 80% من الكرادلة الذين شاركوا في الاقتراع عيّنهم البابا فرنسيس، وهم أكثر ميلا لنهج التغيير من داخل المؤسسة، والسرعة التي تم بها انتخاب بريفوست توحي بوجود إجماع نادر في عصر الانقسامات، وربما تمثل فرصة لإعادة صياغة الوحدة داخل كنيسة تعيش تجاذبات بين تيارات محافظة وإصلاحية، لا سيما في الولايات المتحدة وأوروبا.

ومع ذلك، فإن انتخاب بريفوست لا يخلو من تحديات جسيمة، في مقدمتها استمرار تداعيات فضائح الاعتداءات الجنسية، وتراجع مكانة الكنيسة في أوروبا الغربية، وتنامي الصراع الثقافي بين التقليد والحداثة، وملف الشفافية المالية، وتداعيات الصراعات الجيوسياسية التي تتطلب حضورا روحيا ودبلوماسيا أكبر من الفاتيكان في الساحة العالمية.

ومنذ اليوم الأول، وُجهت أنظار وسائل الإعلام إلى ماضيه في بيرو، حيث واجهت أبرشيته في تشيكلايو اتهامات بالتستر على قضايا اعتداء، وهو ما نفته السلطات الكنسية المحلية بشدة، لكن وجود هذه الملفات يفتح على ضرورة أن يقدم ليو الرابع عشر أجوبة عملية، تتجاوز مستوى الخطاب إلى إصلاحات بنيوية.

وبينما يحتفي الأميركيون بأول بابا من بلادهم، فإن أصواتا داخل الكنيسة الأميركية قد تكون أكثر تحفظا، خصوصا تلك التي كانت على خلاف علني مع البابا فرنسيس، مثل التيار المرتبط بالأسقف المقال جوزيف ستريكلاند، الذي واجه معارضة من بريفوست شخصيا، حين اجتمع الأخير مع البابا فرنسيس والسفير البابوي لمناقشة وضعه، وهو ما أفضى إلى إنهاء مهامه لاحقا، ولعل في هذا التفاعل مؤشرا على أن البابا الجديد لن يتساهل مع التيارات الانفصالية أو الرافضة لوحدة الكنيسة.

ليو الرابع عشر هو كذلك أول بابا من رهبنة الأوغسطينيين، وأول من يجمع بين جنسية مزدوجة وتجربة رعوية عابرة للقارات، وفي وجهه تتلاقى شوارع شيكاغو الفقيرة وأزقة بيرو المتعبة، وفي صوته تتردد أصداء الإصلاح البابوي الذي بدأ مع يوحنا الثالث والعشرين، مرورا ببولس السادس ويوحنا بولس الثاني، وصولا إلى فرنسيس.

ومع دخوله أبواب “السيستين”، تبدأ مرحلة جديدة من تاريخ الكرسي الرسولي، بابا من أميركا، بروح لاتينية، يحمل على عاتقه وحدة الكنيسة في عالم يزداد انقساما، ويبحث عن المعنى وسط العواصف.