من مبادرة مغربية إلى مرجعية أممية: الحكم الذاتي كحل نهائي لقضية الصحراء
محمد الغيث ماء العينين
بعد أكثر من عقد ونصف على إطلاق المغرب لمبادرة الحكم الذاتي، تتعزز اليوم مكانتها بوصفها الخيار الوحيد الواقعي في حل نزاع الصحراء، مدعومة بتحولات دبلوماسية حاسمة أبرزها تدخل الكركرات والاعتراف الأمريكي. هذا المقال يعيد قراءة تطور المقاربة المغربية من لحظة التردد إلى موقع الحسم، ويؤكد أن صواب الرؤية لا يظهر فقط في النصوص، بل في النتائج على الأرض.
في مطلع سنة 2007، لم يكن الجو العام المحيط بمقترح الحكم الذاتي في الصحراء المغربية يشبه ما نعيشه اليوم. كان التوجس سيد الموقف، لا لأن الفكرة ضعيفة أو مشوشة، بل لأنها جاءت في ظرف إقليمي متوتر وسياق داخلي مرتبك. كانت الأصوات ترتفع هنا وهناك، ما بين من يرى في الحكم الذاتي مجازفة محفوفة بالمخاطر، ومن يتوجس من أن يُفهم على أنه تنازل لا خيار استراتيجي. وحينها، لم يكن المشهد الدولي قد نضج بعد ليستوعب هذا المقترح بوصفه “الحل الجدي الوحيد”، كما باتت تصفه قرارات مجلس الأمن الأخيرة
في تلك اللحظة، كان المغرب يُقدّم شيئًا جديدًا: لا مجرد وثيقة تفاوضية، بل مشروعًا سياديًا، مبنيًا على رؤية ملكية واضحة، عبّر عنها جلالة الملك محمد السادس في خطابه بمناسبة الذكرى الثلاثين للمسيرة الخضراء، حين أشار إلى الحكم الذاتي باعتباره “نظامًا جهويًا متقدمًا”، داخل إطار السيادة الوطنية الكاملة، غير القابلة للنقاش.
لكن، في عمق تلك المرحلة، كان هنالك تردّد مشروع. ليس لأن المبادرة غير صلبة، بل لأن البيئة الإقليمية والدولية لم تكن قد تغيّرت بعد. الجزائر، وقتها كما اليوم، كانت لا تزال تعتبر الصحراء بوابة لتصفية حسابات تاريخية، أكثر من كونها نزاعًا ينبغي إنهاؤه. وجبهة البوليساريو، مدفوعة بالدعم الجزائري، كانت تتصرف كما لو أن الاستفتاء واقع لا محالة، وتتسلح بخطاب “الشرعية الدولية” لتبرير أطروحة الانفصال، بينما كانت قرارات مجلس الأمن آنذاك، رغم إدراكها لصعوبة الاستفتاء، لا تزال تمسك العصا من الوسط.
على الجانب المغربي، كانت الدولة قد فتحت أبواب الاستشارة، ودعت الأحزاب والمجتمع المدني والمجالس المنتخبة لتقديم مقترحاتها. لكن الطبقة السياسية، التي اعتادت لعقود على أن يُدار ملف الصحراء من فوق، وجدت نفسها فجأة في قلب معادلة معقدة: كيف تُعطي رأيًا واضحًا في ملف وطني حساس، دون أن تتجاوز السقف، ودون أن تُتهم بالتقصير أو المزايدة؟
في موازاة ذلك، كانت هناك خشية داخلية من أن يستغل بعض الانتهازيين مرونة المقترح للمطالبة بمزيد من الامتيازات، لا من موقع الإسهام الوطني، بل من موقع المقايضة. وكانت اللغة الفضفاضة في بعض أجزاء المبادرة – لا سيما غموض تعريف “السكان المعنيين” و”الصحراويين” – تشكل مصدر قلق حقيقي، لأنها قد تفتح الباب لنزاعات داخلية على من يحق له ماذا، وأين.
اليوم، وبعد مرور ما يقرب من عقدين، يبدو أن معظم تلك التحفظات قد تمت معالجتها، أو أن الزمن قد تجاوزها. فالمغرب، الذي قدّم الحكم الذاتي كمبادرة تفاوضية، ظل يتعامل معها دومًا بوصفها الحل النهائي الوحيد الممكن. لم تكن أبدًا عرضًا للتفاوض على السيادة، بل إطارًا مرنًا لتدبير التعدد داخل الوحدة. وهذا ما فهمه العالم تدريجيًا.
منذ سنة 2007، شهد الملف تحوّلًا جذريًا في المواقف الدولية. فقد تراجعت الأمم المتحدة تدريجيًا عن التلميح لخيار الاستفتاء، وتوالت القرارات التي تؤكد أن الانفصال ليس حلًا واقعيًا. أبرزها القرار 2756 الصادر سنة 2023، الذي جاء كتتويج لمسار طويل من تثبيت الخيار المغربي كمرجعية وحيدة جادة.
لكن التحوّل لم يكن دبلوماسيًا فقط، بل تعزز ميدانيًا من خلال حدث تاريخي مفصلي تمثّل في تدخل القوات المسلحة الملكية في الكركرات يوم 13 نونبر 2020، الذي أنهى محاولات فرض الأمر الواقع شرق الجدار الأمني، وأسقط عمليًا وهم “الأراضي المحررة”. ومنذ ذلك التاريخ، لم تعد تلك المناطق محل حديث جدي في الخطاب الدولي، بل أصبحت تُصنّف كمناطق عازلة خاضعة لاتفاق وقف إطلاق النار. ولم تمضِ سوى أسابيع حتى جاء الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على الصحراء، ليؤكد أن ميزان القوة الجيوسياسي قد حُسم، وأن مبادرة الحكم الذاتي، كما أرادها المغرب، لم تعد فقط إطارًا واقعيًا، بل باتت الخيار الوحيد المطروح أمام المنتظم الدولي.
وبموازاة ذلك، توالت الاعترافات الدولية بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، وأصبح الحكم الذاتي عنوانًا للدبلوماسية المغربية، وليس مجرد مبادرة. حتى الدول التي كانت تكتفي بالموقف الحيادي، كألمانيا وهولندا، أصبحت تتحدث عن المقترح المغربي بلغة الدعم الصريح. وأما فرنسا وإسبانيا، فقد تجاوزتا منطق الحذر القديم، وبدأتا تتعاملان مع الصحراء المغربية كأمر واقع ومستقر.
غير أن الأهم، كما في كل معارك السيادة، هو ما يحدث في الداخل. فالنموذج التنموي الذي أُطلق في الأقاليم الجنوبية، والاستثمارات الهائلة التي عرفتها، لم تكن مجرد رد فعل سياسي، بل كانت تجسيدًا عمليًا لمنطق الحكم الذاتي حتى قبل اعتماده رسميًا. لم ينتظر المغرب إشارة من الأمم المتحدة ليُمارس سيادته الكاملة، بل مارسها بأفق تنموي، قوامه ربط المواطن بمشروع الوطن، لا فقط بالحدود.
لقد تجاوزنا اليوم مرحلة القلق، لا لأن التهديدات زالت، بل لأن المغرب انتقل من وضعية الدفاع إلى وضعية المبادرة. لم يعد الحكم الذاتي سؤالًا مفتوحًا، بل هو الجواب الذي أصبح على الآخرين تقديم بديل عنه، إن استطاعوا. وهو جواب لم يعد يُقاس ببلاغة الوثيقة، بل بنتائجها على الأرض: في البنية التحتية، في المشاركة السياسية، في عودة الهدوء، وفي انكشاف منطق الانفصال الذي صار لا يتجاوز حدود الرهان على الزمن.
لم يكن الحكم الذاتي في الصحراء لحظة سهلة. كان ثمرة تحوّل استراتيجي تطلب شجاعة سياسية وصبرًا دبلوماسيًا. واليوم، لم يعد مشروعًا قيد النقاش، بل مسارًا ترسخ واقعيًا، وانتصر أخلاقيًا، واستقر قانونيًا. وما تبقى، هو الوفاء له من خلال تثبيت شروط النجاح الداخلي: الكفاءة، المحاسبة، والمساواة بين أبناء الوطن الواحد.