ياسمين الشاوي
أتعجب لمن يناقش البديهيات والحقائق، في زمنٍ أرى فيه أناسًا يرغبُون في دحض ما لا يدحض، فقط – ربما – هي الرغبة في سفسطةٍ وجدل لا يؤديان إلا إلى الفراغ والعبث، حتى من دون أن تكون هناك حجة شخصية لدى المجادل، الذي لا تحمل ذاته أفكارًا، خصوصًا أن الذات الواعية المدركة بطبيعتها حمَّالة أفكار.
ولذا علينا أن نقدم لأنفسنا ولخصومنا مقدمات منطقية سليمة وصادقة، كي نتلقَّى نتائج صحيحة ومقنعة، من شأنها أن تُؤثِّر وتؤسِّس لفكر حُرٍّ، وثقافة تغير النفوس والأرواح.
ويتصور الجاهل الضال أنه سينقذ الناس من الضلال، الذي هم فيه، وأنه يُقدِّم خطابًا سيقلب المعادلات، ويغير من طبيعة الأشياء، وكيمياء البشر، وهو يدرك من داخله أنه “واعٍ بِضَلالِه” بحسب تعبير شوبنهاور (1788 – 1860 م)، وأنه مجرد مخاطب لا يعرف معنى للخطاب الذي ينبغي له أن يحمله العقلاء، ويتبناه أهل المعرفة والعرفان.
ومن الحيل التي يُوردُها شوبنهاور في كتابه “فن أن تكون دائما على صواب” والذي نشر سنة 1831 ميلادية، وهي عندي حِيل غير أخلاقية بالمرة، سنجد أنه في الحيلة رقم ثمانية، والتي تختص بإغضاب الخصم الذي تحاوره أو تجادله؛ كي تقضي عليه أو تهزمه شر هزيمة بالضربات القاضية والمفضية إلى الموت المعنوي كعادة البرامج الحوارية المنتشرة في القنوات الفضائية العربية، كأننا في حلباتٍ للمُلاكمة المحترفة، أو المصارعة الحرة، ولسنا في حوارات من المفترض لها أن تكون فكرية تُثري وتُثمر، فشوبنهاور يرى أنه بإغضاب الخصم س “يصيرُ غير قادرٍ على إصدار حكم صحيح وإدراك مصلحته، وإغضابه بأن نكون جائرين في حقه، مستفزين له، كاشفين عن وقاحتنا”، ورحم الله أسلافنا الذين قال أحدهم: “ما جادلتُ العاقلَ إلا غلبته، وما جادلني الجاهلُ إلا غلبني”.
******************
لا حياة حقيقية بلا حوار أو وصول إلى النقطة القصية عبر الجدل الإيجابي، والمساءلة المثمرة. ولا حقيقة دون إقناع، وتقديم براهين وحجج.
أما أن نعيش هكذا تحت سطوة الحِيَل والمكائد، وتحت سلطة الخداع والكذب، فتلك حياة ناقصة، بل تقصر العمر، كما أنها لا تدفع إلى بناء مجتمع فاضل خال من التشدُّد، والفقر في الخيال، الذي هو أوكسيجين العقل والروح معا، والفكر الذي هو العمود الفقري الذي يسند ويبني ويصوغ ويُؤسس، لأن مصيبة المصائب في بلداننا نقص الخيال، بل وانعدامه عند كثيرين بيدهم الأمور.
والحقيقة لها أطراف ووجوه كثيرة، كل واحدٍ فينا يمسك طرفًا منها، وليس هناك واحد بعينه يدَّعي امتلاك الحقيقة وحده، وفي ذكر الحقيقة ارتكبت جرائم كثيرة، كانت كلها عمدًا لا سهوًا، منها اللجوء إلى التهديد والترهيب والسِباب والشتائم، وبثِّ الشائعات ضد الخصم، ولا يهم نوع الشائعة، لكن القصد الأهم هو أن تذبح عبر التشويه المنظم.
ومن أشهر تلك الجرائم إخفاء القصد، وإسقاط محاور أو أجزاء وإسكاتها عن الحوار أو الجدل الدائر بينك وبين شخص ما، أو بينك وبين مجموعة من الناس، أو حتى بينك وبين نفسك، وإذا كنت مشغولا بذكر الحقيقة، فما عليك إلا أن تتكلم قبل أن تفكر، ولا تسمح لأحد أن يضللك.
ودائمًا هناك سؤال، وهناك شك، وليس في اليد يقين ما، بل نحن نعيش مع ما هو نسبيٌّ، ولولا الشك ما توصلنا إلى الحقائق، والذين ينامون في حِضن اليقين، هم أصحاب الحوائط المسدودة، والرؤى المغلقة.
إذ على الإنسان أن يراجع، ويسائل طوال الوقت، كي يسلم من التجلط والعطب الروحي والنفسي؛ لأن العقل السليم لديه غِربالٌ يُنقِّي ويحذف.
رابط صفحة الكاتبة على فيسبوك: https://www.facebook.com/Yassminedwf