
أشرف الحزمري
في القرآن لن نقف على تقرير منطقي أو نقاش إبستيمولوجي يحسم اختلاف الناس بما يمكنهم أن يحسموه بقدراتهم الذاتية، لن تجد في آياته إجابات عن أسئلة يمكن أن يجيب عنها عقل الإنسان بما ينطوي عليه من قوانين تمكّنه من إدراك الأشياء بأسبابها، وإنما الذي نقف عليه في القرآن المجيد هو أنه يخاطب في الإنسان وعيه القلِق، حاله التي تُشعره بغرابة وجوده، أفقه الوجودي المنشود الذي يثير تخييله وتعجبه ويجعله يحس بالتجاوز.
في سورة (ق) سر عجيب تنتظم حوله بنيتها الكلية، نلمسه في مخاطبة حال العجب والتعجب في الإنسان وتوسيعها وتعميقها وكشف حقيقتها (2)، الحال التي تثير فينا الدهشة العفوية والاستغراب التلقائي والرفض الناشئ عن الشعور بالمفارقة، كيف يمكن لشخص منا يحمل نفس طبعنا الإنساني أن ينذرنا بعالم آخر سنذهب إليه بعد موتنا؟ كيف لمن يحيا مثلنا أن ينذرنا بما وراء الموت؟ هذا شيء عجيب، والرجوع من الموت شيء مستبعد[3]، لا مكان وراء هذا العالم كي نخرج إليه.
إن مدار السورة على كلمة ستتكرر كثيرا هي “الوعيد”[14-20-28-45]، الذي جاء به (المنذر) وحقيقته (العالم الآخر) والذي كذبه (الكافر) والذي استجاب له (المؤمن)، فالوعيد معنى يتعلق بما وراء الموت، والمنذر هو المحذر به، الآيات التي جاءت في هذه السورة ترد الإنسان الجَحُود إلى بداهته، وتكشف تردده، وتبني على عدم قدرته على التحقق مما وراء الموت، لهذا تشخّص السورة حالة وعيهم في الشك والالتباس والارتياب: “الأمر المريج” [5] “واللبس من خلق جديد” [15] وتصف هذا الرافض بـ«المريب»[25]، فإذا كان الإنسان لا يقدر على التحقق مما وراء الموت فلماذا يختار طريق الإنكار والتكذيب على طريق القبول والتسليم والإنابة؟ وإذا كان يتعجب من هذا، فهل عالمه الدنيوي نفسه لا يدعو للتعجب؟ سيعرض القرآن مشاهد كونية تفضح الوعي بالمفارقة الذي يثير العجب، أعاجيب العالم، وأعاجيب العودة من الموت في الأشياء التي تموت وتحيا من جديد، لهذا سيربط بينها وبين الخروج، (كذلك الخروج)[11].
إن الذين رفضوا ما جاء به محمد من النذارة (الوعيد بالما وراء)، هو نفسه ما رفضه السابقون، قوم نوح، وأصحاب الرس، وثمود، وعاد، وقوم فرعون، وإخوان لوط، وأصحاب الأيكة، وقوم تبع [14]، الجماعات الإنسانية المعروفة والمشهورة في المعهود العربي، هؤلاء كلهم وقعوا في هذا اللبس من إمكانية العودة بعد الموت والخروج، هؤلاء كلهم يسعون إلى أن المـاوراء يجب أن يُكشف هنـا حتى يتم التسليم، هل سيبطل العجب إذا ما انكشف؟ ماذا لو انكشف الما وراء في دنيانا هل سيبقى الإنسان إنسانا؟ هل سيبقى معنى للقيمة؟ هل سيبقى معنى لامتحان الخير والشر؟
إن تردد الكافر الذي ينتهي باختيار رفض الإيمـان بما بعد الموت، أي حسمه لصالح معياريته وما يراه، تسميه السورة بـ”الغفلة” [22]، لن تنكشف حتى لو انكشف الماوراء في الدنيا، بل ستنكشف بعد أن تنتهي الدنيا بوصفها مسرح امتحان الإنسان في تحققه بالمعيارية الإلهية بدل معياريته، والامتحان الحقيقي سينجح فيه من اختار طريق الحقيقة الروحية، الإيمان بالما وراء ليس بصفة مجانية أو اعتباطية، بل باعتباره يعطي المعنى لحياته الدنيوية، فالامتـحان قائم على من (خشي الرحمن بالغيب)[32]. هذا هو ما يبني الإنسان الأوّاب، الحفيظ، صاحب القلب المنيب، أمـا الذي اختار معيارية أخرى غير المعيارية الإلهية بعنـاده [26]، فلن تهديه طريق الخير، بل ستمنعه منه، وتسقطه في الاعتداء، فهذا ما تؤدي إليه طريق الارتياب.
يعرض القرآن دائما عالم ما وراء الموت على أنه عبء معياري وعالم يمتزج فيه الوجودي بالقيمي الحقيقي، فلا يمكنك أن تميز بينهما، فبينهما علاقة لزومية، (أ رأيت الذي يكذب بالدين، فذلك الذي يدع اليتيم..) وفي السورة سيربط بين رفض ما وراء الموت بالكفر، والعناد، ومنع الخير، والاعتداء، لأن رفض ما بعد الموت في القرآن دائما ما يتم ربطه بالتنصل من المسؤولية الأخلاقية، لهذا إذا ما انكشف عالم ما وراء الموت سيمتلك الإنسان بصيرة حادة، ويقظة دقيقة حتى ترفع عنه غفلته التي كانت تجعله متعجبا [22]، حتى يرى بقوة غير عادية ما كان يرفضه، هناك حيث يبطل العجب الذي دفعه إلى أن يرى ما هو قريب بعيد المنال.
من وسائل الإقنـاع القوية في السورة أن ما استبعده الرافضون وقرروا أنه رجعة بعيدة ستصوره السورة في مشهد القرب، فبدا أن ما أنكروه لم ينتبهوا أنه قريب جدا، أقرب إلى الذات من جسدها [16]، وكل ما يفعله الإنسان فهو تحت رقابة هذا الما وراء، فهو مُحاصَرٌ به عن يمينه وشماله[18]، وحتى تبدي السورة مزيدا من القرب المخيف ستتكلم عن أن الما وراء في برزوه التـام يوم الآخرة سيكون عبارة عن «نداء من مكـان قريب»[41]، وستبقى السورة محافظة على جدلية القرب والبعد حتى في رسم صورة الجنة، (وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد) [31]، كل الما وراء قريب.
لكل هذا ستختم السورة بتذكير النبي بأن الإيمان بالوعيد سيفترق فيه نوعان، أحدهما سيظل رافضا له بما يراه شيئا عجبا، لكن الله أعلم بهذه الحقيقة، فالتعجب لم يعد مفهوما في سياق غير القرآن، أما وأن الله خاطب الإنسان فمن سينتفع بالحقيقة الإلهية هو من يجب تذكيره، (فذكر بالقرآن من يخاف وعيد) [45].
ــــــــــــــ
صفحة الكاتب على فيسبوك
المصدر : https://dinpresse.net/?p=24087