منتصر حمادة
في سياق الاشتغال على ظاهرة الحركات الإسلامية، خلصنا في مجموعة من المقالات إلى وجود ما يمكن الاصطلاح عليه بمضاعفات مرحلة ما بعد الانفصال عن الحركات الإسلامية، وقصدنا بذلك مجموعة من التداعيات التي تطال المتديّن الذي كان منتمياً في زمن ما إلى مشروع إسلامي حركي، وتوقفنا حينها عند أربعة تداعيات: نفسية وأخلاقية وروحية وعقلية.
واضح أن هذه الضرائب مؤسسة على فرضية، قابلة للنقد والنقض، لولا أننا لم ننطلق من فراغ في معرض الاشتغال على هذه الظاهرة.
نحن نذهب إلى أنه في حال صحة هذه الفرضية ــ وهذا ما أكدته العديد من التفاعلات مع أول مقالة في الموضوع، ونخص بالذكر تفاعلات إسلاميين سابقاً ــ فإنها تساعدنا على قراءة ردود أفعال العديد من الإسلاميين السابقين، في سياق التفاعل النفسي مع تداعيات المرحلة السابقة، والتي قد تذهب في التطرف إلى مقام الإلحاد، وهذا هو مقصد هذه المقالة، أي التوقف عند بعض الأسباب التي نعتقد أنها يمكن أن تفسر لنا هذا التحول من النقيض إلى النقيض: من الانتماء إلى مشروع إسلامي حركي، يريد أسلمة المجتمع والنظام والدولة، يدافع عن الدين، بصرف النظر عن مضامين الدفاع وآليات تصريفه المشروع، نحو مقام الإلحاد، بل والتفرغ لسب الإسلام والمسلمين، سواء بشكل ذاتي أو قل تطوعي، أو بشكل يطرح علامات استفهام حول السياق والمعالم.
ومن باب عدم الانتصار لخطاب “تفتيش النوايا”، فإن هذه المقالة تهم الصنف الأول من الإسلاميين الذين أصبحوا من أتباع الإلحاد، ومن المنخرطين في ما يُشبه تصفية حسابات، منتصرة للسذاجة في التعامل مع الدين، بشكل ذاتي، وبالتالي، لا نتحدث قط عن التيار الثاني الذي نجد على سبيل المثال أنه ينتقد التجربة الحركية، سواء كان نقدا هادئا وموضوعيا أو كان نقدا اختزاليا، ولكن في الحالتين معاً، لا يتجاوز سقف النقد هنا، تلك التجربة الإسلامية الحركية دون سواها، وليس نقد الدين.
نقول هذا بصرف النظر عن الموقف من الإلحاد نفسه، والخلاف الدقيق بين الإلحاد والكفر، وإنا كنا نؤمن بأن الإلحاد هنا، من منظور فلسفة الدين، يبدو أشبه بحالة نفسية، ولا تلج العقل الباطن للإنسان، أو فطرة الإنسان، لأنه بمقتضى آية قرآنية كريمة، الأصل في الوجود البشري/ الإنساني، التسليم والإيمان بالقدرة الربانية: “وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى”. (سورة الأعراف – الآية 172)، وسوف نصرف النظر عن هذا النقاش، للتركيز أكثر على موضوع المقالة.
بالعودة إلى بعض النماذج التي تزعم أنها ملحدة، على الأقل في السياق المغربي، يمكن استحضار ظاهرة “كافر مغربي”، الإسلامي الحركي الذي مرّ من تجربة تنظيمية في مرحلة المراهقة مع بعض جماعة إسلامية في القنيطرة، قبل مروره بأزمات نفسية أفضت إلى اعتنقاه مذهب الإلحاد والإقامة في ألمانيا اليوم، مع طبعه في مطلع 2019 كتاباً بعنوان: “مذكرات كافر مغربي”، حظي ببعض الترويج في إحدى دورات المعرض الدولي للكتاب والنشر بالدار البيضاء. [علمنا في هذا السياق، من موزع العمل أنه توصل بحوالي 500 نسخة، وبيعت عن كاملها، على الأرجح بسبب الفضول المعرفي للقراء، أو لاعتبارات أخرى].
يمكن حصر مجموعة من أسباب هذا التحول الذي نعاينه عند العديد من أتباع حركات إسلامية، من سلفية وهابية (تقليدية أو جهادية)، وإخوان مسلمين وغيرهم، مع ضرورة استحضار عامل نزعم أنه يُجسد قاسماً مشتركاً في هذه الأسباب، وهو العامل الذاتي أو الشخصي الخاص بالملحد المعني، ولو أن تأكيد ذلك يقتضي الاشتغال على كل الحالات المعنية، من خلال العودة إلى ما مَيّز مرحلة الطفولة والمراهقة على الخصوص.
يهمنا التوقف عند ثلاث محددات على الأقل:
ــ المحدد الاعتقادي، ومرده تبعات المرحلة الاعتقادية للمتديّن في مرحلة الانتماء الهوياتي لتنظيم ما، حيث يسقط من حيث يدري أو لا يدري في مأزق التماهي بين الدين والتديّن، أي بين الإسلام (المقدس والمتعالي) والإسلاموية (النسبية لأنها بشرية)، فتكون فشل التجربة الإسلاموية أشبه بفشل الإسلام في الجهاز المفاهيمي للمتدين المعني. وليس صدفة أن العقل الإسلامي الحركي يُعيد النظر في جهازه المفاهيمي عندما يشرع في الاشتغال على الفوارق بين الدين والتديّن، فالدين هو الأصل، وهو المنزه عن التحريف، يُؤخذ منه ويُرد [من قبيل النهل من القرآن الكريم، لأنه كتاب مُنَزّل ومنزه] بينما التديّن، بما في ذلك التديّن الذي ينتمي إليه الفاعل الإسلامي الحركي، يبقى تديناً بشرياً، يُؤخذ منه ويُرد، وواضح أن انفصال عضو عن جماعة إسلامية ما، لا يفيد قطعا الانفصال عن الدين، إلا في أذهان منطق فاسد من الاعتقاد سائد عند غلاة التدين المعني.
ــ المحدد الأخلاقي، وهو متفرع عن المحدد السابق، أي متفرع عن المحدد الاعتقادي، فبمقتضى اعتقاد المتديّن الإسلاموي أن الإسلاموية التي ينتمي إليها تجسد الإسلام على أرض الواقع، فإن معاينته لممارسات عملية/ واقعية في التنظيم الإسلامي، تسيء إلى الدين، فإنه يتوهم من حيث يدري أو لا يدري أنها لصيقة بالدين، بينما يتعلق الأمر بممارسات لصيقة بالتديّن، ومرد هذا التوهم كما سلف الذكر، اعتقاده المغلوط، حتى لا نتحدث عن اعتقاد فاسد، أن هذا التديّن يُجسد الدين. (هذه فرضية أيضا تقتضي الاشتغال البحثي)
ــ المحدد النفسي، ونعاينه بشكل جلي في عدة حالات مغربية وعربية، وهو المحدد ذاته الذي يُخول لنا الحديث عن حالات “إلحاد معرفي” أكثر منها حالات إلحاد ديني صرف، كما هو سائد مع الإلحاد في السياق الأوروبي. وميزة هذا المحدد أن المتديّن المعني، في مرحلة أخذ مسافة من الإسلاموية التي كانت ينتمي إليها، وإعلان القطيعة النظرية والتنظيمية، يتطرف في هذا المسار، إلى درجة تبنيه ممارسات نقدية حادة، عنوانها توجيه النقد للدين وللتديّن، كما لو كان ينتقم لنفسه، بينما في الواقع يكاد يكون في حالة تصفية الحساب الذهني مع الذات.
بسبب الثقل الكثير لهذا المحدد مقارنة مع المحددين سالفي الذكر أعلاه، نذهب إلى أن الإلحاد السائد خلال السنين الأخيرة في المغرب والمنطقة، يهم ظواهر إلحادية معرفية أو ثقافية أكثر منها ظواهر إلحادية حقيقية، وبالتالي تبقى معرضة لأن تكون ظواهر مجتمعية عابرة، وهذا يذكرنا بالظواهر ذاتها في مرحلة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، مع ما كان يُميز ظاهرة “حركة إلى الأمام” هنا في المغرب مثلاً، مع العديد من رموزها وكذلك العديد من الرموز اليسارية بشكل عام، قبل أن يتضح بعد عقود لاحقة، لاعتبارات نفسية وثقافية وسياسية أيضاً، أنه لا مستقبل لهذا الخطاب في المنطقة، مادامت تضم تديناً محافظاً بشكل عام، بصرف النظر عن ارتفاع مؤشر التديّن الإسلامي الحركي (السلفي والإخواني والجهادي.. إلخ)، لأن هذا التديّن يجسد أقلية بدوره.
صحيح أن المواقع الرقمية تعج بالخطاب الإلحادي، ولكنها حالات فردية أكثر منها تنظيمات أو مشاريع أو مؤسسات، وبالتالي ليست مؤشراً نوعياً دالاً على ارتفاع حقيقي لمؤشر الإلحاد، لأن السياق الثقافي بشكل عام، ومعه السياق الديني والهوياتي في المغرب مثلاً أو في المنطقة العربية، لا يسمح بانتشار كبير للخطاب الإلحادي، بل إن هذا الانتشار متواضع حتى في الدول الغربية، الأوربية على الخصوص، فالأحرى في دول المنطقة العربية والمجال الإسلامي.
بقيت إشارتان:
1 ــ تفيد الأولى أننا توقفنا عند المُحددات الذاتية المغذية لظاهرة الإلحاد، ولم نتحدث عن المحددات الموضوعية التي تساهم في بزوغ الظاهرة، وهي كما هو جلي، محددات خارجية، وفي مقدمتها المحدد الديني، ونقصد به التفاعل العكسي السلبي مع جزء من الخطاب الديني التقليدي، في شقه المتشدد على الخصوص، وليس صدفة أن إحصاءات 2016 كما صدرت في تقرير دولي مرجعي حول الظاهرة، كشفت أن السعودية تحتل المرتبة الأولى عربياً في نسبة الإلحاد، وقد تكون من بين أسباب ذلك، تبعات الخطاب الديني المتصلب الذي هيمن على خطاب المؤسسات الدينية السعودية، على غرار تفشي الظاهرة عند إيران الشيعية أيضا. نقول هذا بصرف النظر عن صعوبة الظفر بأرقام حقيقية حول نسبة الإلحاد من جهة، وطبيعته من جهة ثانية، هل يتعلق الأمر بإلحاد ديني حقيقي أم إلحاد معرفي أو ثقافي، مع التأكيد أن هذا المحدد الموضوعي يهم الملحدين بشكل عام، بمن فيهم أتباع الحركات الإسلامية سابقاً، لولا أننا في هذا المقال نتحدث عن هذا التيار بالذات.
2 ــ تفيد الثانية أننا نعاين انخراط إسلاميين في التصدي لظاهرة الإلحاد، وهذه مفارقة نظرية تحيلنا على مأزق اللامفكر فيه في الجهاز المفاهيمي لهذه المشاريع، ونخص بالذكر هنا الجهاز المفاهيمي للمشروع السلفي الوهابي، حيث يتحمل هذا الخطاب جزءً من المسؤولية في ولادة ظاهرة الإلحاد، عبر تحريم الفلسفة والمنطق والعداء للمرأة والفن… والآن، نجده يشتغل على التصدي للإلحاد، ولو تطلب الأمر الاستعانة بأدبيات الفلسفة، كما نقرأ في بعض إصدارات أحد المراكز البحثية الخليجية، وبالرغم من ذلك، نزعم أنها مبادرات نافعة، ما دامت تساهم في التصدي لتبعات تزييف الوعي الذي مورس باسم الدين، مع هذا التيار أو غيره.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=23916