عندما يرفض الفقيه “أكل المال العام بالباطل”!!

دينبريس
آراء ومواقف
دينبريس20 فبراير 2025آخر تحديث : الأربعاء 19 فبراير 2025 - 11:37 مساءً
عندما يرفض الفقيه “أكل المال العام بالباطل”!!

بقلم عبد الخالق حسين
عُيِّنتُ رئيسا للمجلس العلمي لطانطان في يونيو 2023، وكان المرحوم الحاج سيدي الطيب عضوا بالمجلس منذ 2009. اتصل بي مهنئا وداعيا لي بالتوفيق في المهمة الجديدة، وطلب مقابلتي. تواعدنا على اللقاء بالمسجد الذي يؤم فيه الناس منذ عقود، وهو مسجد المسيرة بحي المسيرة الخضراء، على أن يكون اللقاء بعد صلاة العصر.

بعد الأذان وفترة تحية المسجد، فُتح الباب الذي يربط بين المسجد ومكتبته الصغيرة التي يستقبل فيها الزوار والمستفسرين عن القضايا والمسائل الفقهية. دخل يمشي الهوينى كعادته، وعليه سكينة.

كنتُ عندما أراه، أرى وليا من أولياء الله الذاكرين المتواضعين، الخافضي الجناح للخلق.

أمَّ بالمصلين بخشوع، ثم ولى وجهه مستديرا نصف استدارة، مُسندا ظهره إلى الحائط الأيسر للمحراب، ثم ختم أذكاره بالدعاء الجماعي الذي جرى به العمل الديني المغربي عبر قرون: “اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة…”.

تقدَّم عدد من تلاميذه وطلبته الذين يدرسون بالمدرسة القرآنية العتيقة التي يشرف على تسييرها، مقبلين يده، وتقدم للسلام عليه عدد من المصلين. كان، رحمه الله، يُقبل بوجهه واهتمامه على كل واحد، مبتسما ومستفسرا عن أحوال من يسلم عليه.

انصرف الناس، ولم يبق في المسجد إلا هو، والمؤذن سيدي الحسين، الرجل الرباني المتصوف الذي ضعف بصره وقوّاه في خدمة بيت الله.

تقدّمت صوب الحاج سيدي الطيب، فرحب بي مبتسما، وجلستُ قبالته. كعادته، سأل عن والدتي وأسرتي، ودعا لوالدي الشاف لحسن، ولصهري الحاج عمر العلمي، فقد كانا صديقيه، رحمهما الله.

بعدها استأذنني في الحديث عن المجلس العلمي والمهام الدعوية، وفاجأني بقوله: “ألتمس منك، السيد الرئيس، أن تقبل استقالتي من المجلس العلمي!”

في الحقيقة، فاجأني التماسه هذا، فاعترضت مستفسرا: “لماذا تفكر في الاستقالة، وأنا أفتخر بك، وأتمنى أن أشتغل معك، وأفتخر أنك عالم بجانبي في المجلس العلمي؟ بل إني أتبرك بدعائك، وأكثر من ذلك، أنت محتاج إلى التعويض المالي مقابل عضويتك، ليسندك في مرضك وتشتري به دواءك”.

لكن كان جواب سيدي الحاج الطيب صريحا، وبنبرة هادئة، نابعة من رجل تقي متعفف، غني النفس، فقال: “إني لم أعد قادرا على إلقاء الدروس في المساجد وحضور الأنشطة الدينية، وأخشى أن آخذ مالا لا أستحقه”.

بعد مراجعة في الكلام وأخذ ورد في الحديث، لعله يتراجع عن قرار الاستقالة، ودعته، ووعدته أن أجيبه يوم الغد.

في صباح اليوم الموالي، وبمجرد دخولي المكتب، هاتفته، وقدَّمت له عرضا خاصا، وهو أن يكتفي بالوعظ في مسجده، والتدريس في مدرسته، والمشاركة في بعض الأنشطة الدينية المتفرقة، ليحفظ عضويته بالمجلس العلمي.

غير أنه أجابني بإصرار الواثق من قراره: “سيدي الرئيس، لن أستطيع أداء مهمتي بإتقان في المجلس العلمي لكثرة غيابي من أجل زيارة الأطباء في مدينة أكادير، لهذا أخشى أن يسألني الله يوم القيامة عن مال أخذته ولم أُؤدِّ واجبه…”.

صدقوني، كلماته ونبرة صوته التي تشع نورا حرّكت مشاعري، وعلمت أنني أمام رجل يضع قدما في الآخرة عند ربه.

قبلت استقالته، وقلت في نفسي: “هذا رجل من أهل الله…”، وتذكرت فقهاء وعلماء عبر تاريخنا المجيد، الذين كان الواحد منهم يفر من درهم الحرام كما يفر العاقل من لهب النار.

رحم الله سيدي الحاج الطيب شكور، وأسكنه الفردوس الأعلى مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.