نحو مؤتلف إسلامي فاعل: من التقريب إلى قبول التنوع الفقهي

دينبريس
آراء ومواقف
دينبريس19 فبراير 2025آخر تحديث : الأربعاء 19 فبراير 2025 - 8:14 صباحًا
نحو مؤتلف إسلامي فاعل: من التقريب إلى قبول التنوع الفقهي

الدكتور محمد بشاري
إعادة بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية ليست مجرد طرح فكري أو مبادرة نظرية، بل هي ضرورة شرعية واستراتيجية تمليها مقاصد الشريعة في تحقيق الاجتماع والتآلف وصيانة الأمة من الانقسام والتنازع. منذ نشأة المذاهب الفقهية، كان التعدد الفقهي جزءًا أصيلًا من الاجتهاد الإسلامي، حيث لم يكن سببًا في تفتيت الأمة، بل شكل إطارًا معرفيًا يعكس مرونة الشريعة الإسلامية وقدرتها على استيعاب الاختلاف الفقهي داخل منظومتها.

لكن عبر التاريخ، تحول هذا التنوع إلى مادة للصراع حينما تم توظيفه لأغراض سياسية وطائفية، مما أدى إلى تصعيد النزاعات بدلًا من إدارتها وفق الضوابط الشرعية. اليوم، تفرض التحديات المعاصرة ضرورة الانتقال من مجرد التقريب بين المذاهب إلى ترسيخ ثقافة قبول التنوع الفقهي والتعامل معه باعتباره عامل قوة لا سببًا للانقسام.

في هذا السياق، يأتي المؤتمر الثاني لبناء الجسور بين المذاهب الإسلامية في مكة المكرمة يومي السادس والسابع من رمضان المبارك، برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، ليشكل محطة جديدة في التحول من التقريب إلى تفعيل المشتركات، ومن الحوار إلى البناء المؤسسي لوحدة إسلامية فاعلة.

ليست المسألة مجرد لقاء فكري، بل خطوة نحو إعادة ضبط العلاقة بين المذاهب الإسلامية وفق رؤية شرعية قائمة على أصول الاجتهاد ومقاصد الشريعة. لا يمكن أن تظل جهود التقريب مقتصرة على النخب الفقهية والفكرية، بل يجب أن تتحول إلى سياسات علمية وتعليمية وإعلامية ومجتمعية تعيد صياغة العلاقة بين المسلمين وفق منهجية أصولية واضحة.

التاريخ يؤكد أن الفقه الإسلامي لم يكن أحادي الاتجاه، بل تأسس على التعدد في الاجتهاد، وهو ما جعله إطارًا مرنًا قادرًا على استيعاب التنوع الفقهي ضمن الضوابط الشرعية. لم تكن الإشكالية يومًا في وجود مدارس فقهية متعددة، بل في كيفية إدارتها داخل الأمة. حينما كان الاختلاف يُدار وفق القواعد الأصولية الضابطة، أصبح عامل إثراء علمي، لكن عندما تم استغلاله لخدمة الأجندات السياسية، تحول إلى أداة للصراع والتمزق.

ومن هنا، فإن إدراك الفرق بين الاختلاف الفقهي المشروع وبين النزاع المذهبي المذموم يمثل الخطوة الأولى في إعادة التوازن إلى العلاقة بين المذاهب الإسلامية، وهو ما يجعل من إحياء قاعدة مراعاة الخلاف ضرورة شرعية وعلمية وليست مجرد خيار فكري.

تقوم قاعدة مراعاة الخلاف، كما قررها المالكية وغيرهم، على أن الخلاف الفقهي إذا كان له مستند شرعي معتبر، فهو داخل في دائرة السعة التي أقرها الشارع الحكيم، ويجب التعامل معه على أنه اجتهاد معتبر لا مدخلًا للتنازع أو الإقصاء. لا يمكن تصور وحدة إسلامية تقوم على إلغاء التنوع الفقهي، لأن ذلك يتناقض مع طبيعة الشريعة الإسلامية، ولكن يمكن تحقيق وحدة قائمة على استثمار المشترك وإدارة المختلف فيه وفق رؤية علمية متوازنة. النظر إلى التعدد الفقهي كظاهرة طبيعية داخل الشريعة الإسلامية يفرض ضرورة إعادة ضبط العلاقة بين المذاهب الإسلامية على أسس شرعية، تحكمها القواعد الأصولية لا المصالح السياسية أو الطائفية.

جاءت وثيقة مكة المكرمة في المؤتمر الأول لوضع إطار تأسيسي يضبط العلاقة بين المذاهب الإسلامية، حيث أكدت على ضرورة أن يظل الخلاف الفقهي داخل إطاره العلمي، وألا يتحول إلى نزاع عقدي أو سياسي. لكن نجاح هذه الوثيقة مرهون بترجمتها إلى برامج تنفيذية، بحيث لا تبقى مجرد نصوص نظرية، بل تتحول إلى آليات عملية واضحة. من هنا، تبرز الحاجة إلى وضع “مانيفستو للمذاهب الإسلامية”، يعمل على إرساء المبادئ الأساسية لإدارة التنوع الفقهي، ويفصل بين الاختلاف الفقهي المشروع والممارسات التي تتجاوز هذا الإطار إلى إثارة الفتن والنزاعات.

لم يعد التقريب بين المذاهب اليوم مجرد قضية فقهية أو فكرية، بل أصبح ضرورة حضارية تستوجب رؤية متكاملة تتجاوز النقاشات التقليدية إلى إعادة تشكيل الوعي الإسلامي العام، بحيث تصبح ثقافة التعدد الفقهي جزءًا من هوية المجتمعات الإسلامية. هذا يتطلب إصلاحًا في المناهج التعليمية، وإعادة بناء الخطاب الديني، وتطوير الإعلام الإسلامي ليكون أداة لتعزيز ثقافة التقارب، لا ساحة للاستقطابات المذهبية. كما ينبغي أن تنعكس هذه الرؤية في المؤسسات الدينية، بحيث تعكس التعدد الفقهي داخل الأمة، بدلًا من أن تكون منصات لنشر رؤى أحادية تُقصي الاجتهادات الفقهية الأخرى.

تأتي مبادرة معالي الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى في إطلاق الجولة الثانية من مشروع التقريب بين المذاهب الإسلامية في هذا الإطار، حيث تهدف إلى الانتقال من مجرد تعزيز الحوار إلى إيجاد حلول عملية لترسيخ ثقافة القبول بالتنوع الفقهي. هذه المبادرة لا تقتصر على تصحيح المفاهيم المغلوطة حول المذاهب المختلفة، بل تسعى إلى إعادة تشكيل العقلية الإسلامية بحيث تتجاوز منطق الصراع إلى منطق التكامل، وتعزيز فقه الموازنات بحيث يتم تقديم المصلحة العامة للأمة على المصالح الفئوية والطائفية الضيقة.

إن رعاية المملكة العربية السعودية لهذا المؤتمر ليست مجرد دعم رمزي، بل تعكس رؤية استراتيجية واضحة في ضرورة إعادة ضبط المشهد الفقهي والفكري في الأمة الإسلامية وفق رؤية تراعي التحديات الراهنة، وتضع حلولًا عملية لها. مكانة المملكة كحاضنة للحرمين الشريفين، ومسؤولة عن جمع كلمة المسلمين، تجعلها في موقع المسؤولية التاريخية والدينية لقيادة مشروع بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية، وفق رؤية تجمع بين الشرعية الدينية، والبُعد الاستراتيجي، والالتزام بتفعيل المشتركات التي توحد المسلمين بدلًا من أن تفرقهم.

تحقيق مؤتلف إسلامي فاعل ليس مجرد شعار يُرفع، بل مسؤولية حضارية تتطلب إرادة سياسية وفكرية واضحة، وإصلاحًا شاملًا للمؤسسات الدينية والتعليمية والإعلامية. يجب أن تشمل هذه الرؤية إصلاح المناهج التعليمية بحيث تكرس ثقافة التعدد الفقهي، وتمنع تسرب النزعة الطائفية إلى الخطاب الديني، وتطوير الإعلام الإسلامي ليكون أداة لنشر ثقافة التقريب، بدلًا من أن يكون منصة للجدل المذهبي العقيم، وإعادة هيكلة مؤسسات الفتوى بحيث تعكس واقع الأمة الإسلامية بجميع مذاهبها. لا يمكن الحديث عن وحدة إسلامية حقيقية إذا بقيت الأمة أسيرة صراعات مذهبية مصطنعة، تعيق مسيرتها نحو تحقيق نهضتها الحضارية.

انعقاد هذا المؤتمر في مكة المكرمة، وفي شهر رمضان المبارك، يحمل رسالة واضحة مفادها أن الأمة الإسلامية قادرة على تجاوز خلافاتها إذا توفرت الإرادة الحقيقية لذلك. لقد شهد التاريخ الإسلامي مراحل ازدهرت فيها الأمة حينما تمكن المسلمون من استثمار تنوعهم الفقهي والفكري في البناء لا في الهدم، والتحدي اليوم هو إعادة إحياء هذا النموذج الحضاري، بحيث يصبح التعدد الفقهي عاملًا من عوامل قوة الأمة، لا سببًا في ضعفها وتشرذمها. الطريق نحو مؤتلف إسلامي فاعل يبدأ بإرادة واعية تدرك أن الاختلاف ليس نقيضًا للوحدة، بل هو جزء من ديناميكية الاجتهاد الإسلامي، إذا تم ضبطه بقواعده الشرعية الحاكمة.

إن التحول من التقريب إلى قبول التنوع الفقهي يمثل رؤية أكثر واقعية وعمقًا تتماشى مع روح الشريعة الإسلامية، حيث لا يُطلب من الجميع التنازل عن مذاهبهم، بل أن يُدار هذا التعدد وفق رؤية تجمع ولا تفرق، تبني ولا تهدم. وإذا كان المؤتمر الأول قد وضع الأسس، فإن المؤتمر القادم مسؤول عن نقل هذه الرؤية إلى مرحلة التنفيذ، بحيث تصبح ثقافة تقبل التنوع الفقهي واقعًا في حياة المسلمين، وليس مجرد مشروع نخبوي يبقى حبيس المؤتمرات والندوات.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.