سعيد الزياني ـ دين بريس
إدريس لكريني، أستاذ التعليم العالي بكلية الحقوق بجامعة القاضي عياض بمراكش، ورئيس منظمة العمل المغاربي، يطل علينا في إصدار جديد، بعيدا عن تخصصه الأكاديمي في القانون الدولي والعلاقات الدولية، يحمل عنوانا مثيرا “طفولة بلا مطر”. هذا الإصدار يتعدى كونه نصا أدبيا عابرا، إلى كتابة تجربة استثنائية تحفر عميقا في ذاكرة كاتب قرر أن يشاركنا تفاصيل طفولته القروية، تلك الطفولة التي تشكلت بين ثنايا قرية بني عمار، قرب العاصمة الإسماعيلية مكناسة الزيتون، حيث تتشابك حكايات الحقول والتراب، وصوت المذياع الذي يصدح بأخبار العالم الخارجي.
وحين نغوص في صفحات الكتاب، نكتشف أن إدريس لكريني لم يكن يسعى فقط لاستعادة ذكريات الطفولة، بل كان يبحث عن الذات التي ضاعت في زحمة الحياة الأكاديمية، التي صقلتها قوانين السياسة وأزمتها الدولية. وفي هذا العمل، يترك المؤلف صرامته الأكاديمية جانبا، ليتحرر من قيود التوثيق الجاف، ويمنحنا نصا مفعما بالأحاسيس، نصا يفيض بعبق الأرض وذكريات الطفولة التي لم تكتمل، أو ربما تكتمل الآن، على الورق.
ويتألف الكتاب من 24 فصلا، ويحمل كل منها عنوانا يعكس تجربة محددة، تجربة تحكي قصة بحث عن المعنى في تفاصيل الحياة البسيطة. ومن “موعد مع الحياة” حيث يبدأ إدريس رحلته مع الكلمات في الكتاب القرآني، إلى “أحلام على مشارف المدينة” التي تختتم السيرة بآماله العريضة حين قرر الانتقال إلى فاس للدراسة الجامعية، وبين هذه البداية وذلك الختام، نجد تفاصيل عميقة، تتسرب منها روح الطفل الذي يركض خلف السراب، يحفر بيديه الصغيرة آبارا بحثا عن ماء الحياة، في زمن شح فيه كل شيء، حتى الحلم.
ويأخذنا الكاتب برشاقة عبر الفصول، من “سمرا في موسم الحصاد” إلى “عازف في المقبرة”، نرى الطفل الذي تعلم الحكمة من صوت أمه، التي كانت تربيه على الصبر والمثابرة، بينما كان والده يغيب شهورا طويلة للعمل في فرنسا، ونسمع صدى الضحكات المكبوتة في الزوايا الضيقة، ونشم رائحة الخبز الطازج في الصباحات الباردة، إنها ليست حكاية عن فقر القرية وصعوبة الحياة فحسب، بل هي رواية عن الإرادة، عن البحث عن النور في قلب الظلام.
لعنة الجفاف، الرحيل، سياحة روحية، موسم الزيتون، ومغامرة في الجبل، كل هذه الفصول تفتح نوافذ على مشاهد من طفولة كانت محكومة بشروط قاسية، لكنها لم تفقد أبدا وهجها، حيث نرى الطفل وهو يتعلم الرسم على جدران الزمن، يرسم مستقبله بألوان الطين، وبأحلامه الصغيرة التي كانت تكبر كلما رأى شجرة زيتون جديدة، أو سمع قصة من أمه قبل النوم.
وما يميز “طفولة بلا مطر” هو تلك اللغة السهلة الممتنعة، اللغة التي تتسلل إلى القلوب دون استئذان، كنسمة ربيع تداعب أوراق شجرة في ريف هادئ، إنها لغة تتحدث بلسان القرية، بلغة الأرض والسماء، تجمع بين دفء الذكريات وقسوة الواقع، فـ”لكريني” لم يكتب نصا شعريا، لكنه استطاع أن يجعل الكلمات ترقص في أذهاننا، أن تعزف سيمفونية من المشاعر، تجعلنا نضحك أحيانا ونبكي أحيانا أخرى.
وفي “صنم في الفصل” و”هدوء قبل العاصفة”، نستشعر تحول إدريس من طفل يحلم بالمطر إلى شاب يتوق للمعرفة، وتتبدل المشاهد من القرية الهادئة إلى فضاء الجامعة الرحب، حيث يبدأ الكاتب في تكوين شخصيته الأكاديمية، فتنبثق أحلام جديدة وسط أجواء من النضج الفكري والمسؤولية، ثم كانت ولادة جديدة، تحرر من قيود الطفولة، واندماج في عالم الكبار، عالم الصرامة الأكاديمية، وعالم السياسة الدولية.
“طفولة بلا مطر” شهادة على قدرة الإنسان على تحويل المعاناة إلى قوة، وعلى رؤية الأمل في قلب اليأس، وهي أيضا دعوة للتأمل في جمال الحياة، في بساطة الأشياء، في قدرة الإنسان على تجاوز الصعاب، وعلى أن يكون رجلا قبل الأوان، إنها رحلة في عالم إدريس الداخلي، رحلة نكتشف من خلالها تلك العلاقة المعقدة بين الكاتب وزمنه، بين الماضي والحاضر، بين القرية والمدينة.
ونحن نقرأ عن “دار الشباب” التي شكلت له ملاذا ثقافيا، وعن “السكن الجديد”، و”عاشق الست”، ندرك أن إدريس كان شغوفًا بالمعرفة، مفتونا بعالم الكتب، مغرما بالأغاني التي كانت تهدهده في ليالي الشتاء الباردة، ونلمح الطفل الذي كان يحمل مذياعا صغيرا، يتنقل بين أثير المحطات، يبحث عن صوت يخبره بما يحدث في العالم، ويجد في الصحافة نافذة على عالم أوسع من القرية.
وحين نصل إلى الفصل الأخير، “أحلام على مشارف المدينة”، نكتشف أن الرحلة كانت استكشافا لمفاهيم أعمق، لإدراك أن الطفولة كانت هي الحياة ذاتها، إنها المنبع، هي الحكاية التي تظل تروى، حتى عندما نظن أننا نسيناها.
ولم يكتب إدريس لكريني، في هذا الكتاب، فقط عن طفولته، بل كتب عن طفولتنا جميعا، عن ذلك الطفل الذي يركض خلف السراب، يأمل في مطر لم يسقط بعد، لكنه يظل يؤمن بأن الغيث قريب، وبأن الحياة تستحق أن تعاش، رغم كل شيء.
“طفولة بلا مطر” هي رحلة تتجاوز الزمان والمكان، نص أدبي يفتح أبواب الماضي ليس فقط على مصراعيه، بل يجعلنا نرى المستقبل بشكل أوضح، نص يعيد تشكيل الذاكرة، يعيد بناء الحلم، ويذكرنا بأن كل قطرة مطر غابت عن طفولتنا، كانت تعدنا بغد أفضل، وربما تكون هذه الطفولة بلا مطر هي التي جعلت من إدريس لكريني ذلك الباحث الأكاديمي الصارم، ذلك الإنسان الذي لا يزال يحمل في قلبه حنين الطفل الذي كان، وذكريات الطفولة التي لم تغادره أبدا.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=23126