بقلم الدكتور محمد بشاري
التعديلات على مدونة الأسرة: قراءة أصولية وفقهية معمقة
الوقفة الأولى: بيت الزوجية بين أحكام المواريث ومقاصد الشريعة
مسألة إيقاف بيت الزوجية مؤقتًا لصالح الزوجة والأبناء القاصرين ليست خروجًا عن أحكام الإرث، بل هي تدبير يستند إلى مقاصد الشريعة في حفظ النفس والعرض وحماية الأسرة من التشرد. الشرع الإسلامي يؤسس أحكامه على قواعد كلية تشمل رفع الضرر وجلب المصلحة.
الأساس الأصولي للتعديل:
•قاعدة “درء المفاسد مقدم على جلب المصالح”: إخراج الورثة للزوجة القاصرة من بيت الزوجية دون توفير بديل آمن لها يشكل مفسدة ظاهرة، خصوصًا في ظل ضعف التكافل الاجتماعي.
•قاعدة “الحاجة تنزل منزلة الضرورة”: الحاجة العامة للزوجة والأبناء للسكن تعتبر حاجة معتبرة شرعًا تبرر اتخاذ تدبير مؤقت لحمايتهم.
الاستدلال الفقهي:
1.السكن أثناء العدة: نص الفقهاء على وجوب بقاء الزوجة المتوفى عنها زوجها في بيت الزوجية أثناء عدتها. قال الإمام مالك: “العدة في بيت الزوجية واجبة؛ لأن في ذلك حفظًا لها وللأسرة.”
2.قضاء النبي ﷺ: جاء في الحديث أن النبي ﷺ أمر أن تبقى دور المهاجرات لهن بعد وفاة أزواجهن، مما يدل على جواز تخصيص السكن مؤقتًا لحماية النساء. وهذا ليس من باب الإرث، بل من باب الإرفاق.
3.القياس على نساء النبي ﷺ: استمر نساء النبي ﷺ في حجراته بعد وفاته رغم أنه لا ميراث لهن فيها، مما يدل على أن تخصيص السكن كان للانتفاع المؤقت، لا للتمليك.
الوقفة الثانية: ديون الزوجين والمسؤولية المشتركة
القول باعتبار ديون الزوجين التزامات مشتركة يثير إشكالًا في ظاهر الأمر مع استقلال الذمة المالية لكل منهما. ومع ذلك، إذا نظرنا إلى طبيعة الأسرة كمؤسسة تعاونية، نجد أن الأصل هو الاشتراك في المنافع والمغارم.
الأصل الشرعي في استقلال الذمة:
•قال تعالى: {لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ} (الأنعام: 164)، وهو دليل على أن الأصل في الشرع استقلال الذمة المالية.
•القاعدة الفقهية: “الأصل براءة الذمة.”
تقييد هذا الأصل بالمصلحة:
لكن، عندما تكون الديون مرتبطة بمشاريع أو التزامات تخدم الأسرة ككل، فإن المصلحة تقتضي اشتراك الزوجين في تحملها:
•قاعدة “الغرم بالغنم”: إذا كان الدين قد استفاد منه جميع أفراد الأسرة، فمن العدل أن يشترك الجميع في تحمله.
•الفقه المالكي: أجاز المالكية اشتراك الشريكين في التبعات المالية للمشاريع المشتركة. قال خليل بن إسحاق: “الشراكة تلزم كلا الطرفين بما عليهما من التزامات دون تفريق.”
الضوابط الشرعية:
1.رضا الطرفين: الأصل أن يتحمل كل طرف ديونه الشخصية، إلا إذا ثبت أن الدين قد أُخذ بموافقة ورضا الطرفين لصالح الأسرة.
2.تحديد المسؤولية: إذا تعلق الدين بمشروع مشترك، فإن تحمل المسؤولية يكون بقدر الانتفاع.
الوقفة الثالثة: رفع سن الزواج وتنظيم التعدد: بين المصلحة الشرعية والواقع
رفع سن الزواج إلى 18 عامًا وتنظيم التعدد ليس من باب التحريم لما أحله الله، بل هو من باب التقييد المصلحي للمباح، وهو ما أجازه الفقهاء استنادًا إلى صلاحيات ولي الأمر لتحقيق مقاصد الشرع.
رفع سن الزواج:
1.قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي: أجاز المجمع رفع سن الزواج وفقًا للظروف الاجتماعية والاقتصادية لكل بلد. وأكد أن هذا التقييد لا يناقض الشرع إذا كان يحقق مصلحة معتبرة، مثل حماية القاصرات من الاستغلال وضمان نضجهن البدني والعقلي.
2.السيرة النبوية: زواج السيدة عائشة رضي الله عنها كان في سياق اجتماعي مختلف، حيث كانت البيئة تعزز النضج المبكر. القياس على هذا الواقع في زمننا دون اعتبار الفوارق الثقافية والاجتماعية يعد قياسًا مع الفارق.
تنظيم التعدد:
1.اشتراط العدل: قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} (النساء: 3)، وهو شرط أساسي لتعدد الزوجات. إذا تعذر العدل، فإن التقييد يصبح واجبًا لتحقيق مقاصد الشرع.
2.صلاحيات ولي الأمر: أجاز الفقهاء لولي الأمر تقييد المباح إذا كان يحقق مصلحة عامة. قال ابن القيم: “تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة.”
الوقفة الرابعة: مقاصد الشريعة والتوازن بين النصوص والواقع
الشريعة الإسلامية ليست مجموعة من الأحكام الجزئية فحسب، بل هي نظام متكامل يراعي المصالح العامة ويدفع المفاسد. التعديلات المقترحة على مدونة الأسرة جاءت استجابة لتحولات اجتماعية واقتصادية تتطلب اجتهادًا يعكس روح الشريعة.
الدليل الأصولي:
•قاعدة “تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان”: الفقيه ابن القيم أكد أن الفتوى تتغير بتغير العرف والمصلحة، شريطة أن تكون منضبطة بأصول الشرع.
•العمل بالمصلحة المرسلة: المصلحة المرسلة تعد أداة اجتهادية معتبرة لتحقيق ما لا نص فيه، شرط عدم مصادمتها للنصوص القطعية.
خاتمة: الاجتهاد الشرعي واستجابة التحديات
التعديلات على مدونة الأسرة، بما فيها مسألة بيت الزوجية، الديون، وسن الزواج، ليست خروجًا عن الشريعة، بل هي اجتهادات تسعى لتحقيق مقاصدها الكبرى في حفظ النفس، العرض، والنسل.
الاعتراضات التي أثيرت تحتاج إلى تعمق في فهم الأصول الشرعية وظروف الواقع. وكما قال الإمام مالك: “الأمر الذي يجمع الناس عليه ويكون فيه صلاحهم، فهو السنة.” (يتبع)
المصدر : https://dinpresse.net/?p=22304