محمد زاوي
1-تعديل “المدونة” ومصالح الدولة في الداخل
لا تخرج الدولة في مشروعها لتعديل مدونة الأسرة عن إطار مصلحتين: مصلحة في الداخل، وأخرى في الخارج. المحدِّد في المصلحة الأولى علاقة الدولة بالمجتمع، وفي الثانية علاقتها بميزان القوى الدولي في شرط نظام عالمي مضطرب.
كل نقاش في التعديل من طرف الهيئات السياسية والمدنية، لا ينطلق من هذا الاعتبار المصلحي، فهو يغرد خارج سرب الدولة والمجتمع معا، لأن العلاقة بينهما جدلية، ولأن الدولة في المجتمع والمجتمع في الدولة.
وهنا يأتي طرح السؤال الذي لابد منه، فهل تدخل هذه الجلبة الصادرة عن “الأصوليين” من جهة، و”الحداثيين” من جهة أخرى، في صلب تصور الدولة لتحقيق مصلحتها أو الأقرب إلى هذه المصلحة في الموضوع؟!
تسعى الدولة، من خلال مشروع التعديل، إلى:
– حفظ تماسك المجتمع: فالدولة أول من يدافع عن تماسك المجتمع، وهي في ذلك ليست في حاجة إلى تذكير. تفكك الأسرة، وبالتالي تفكك المجتمع، لا يخدمها وليس في مصلحتها. ولذلك فتذكيرها بهذا التماسك، من قبل “الأصوليين”، يدخل في باب النوافل، أو لعله يؤدي أدوارا أخرى من قبيل تقوية موقع الدولة في التفاوض والتمسك بخصوصيتها الاجتماعية والثقافية (الأسرية).
أما الاحتراز من ضغط “الحداثيين” في اتجاه فرض تعديلات تهدد التماسك الاجتماعي، فاحتراز مبالغ فيه، لأن التشريع ليس في أيديهم كما أنه ليس في أيدي “الأصوليين”. التشريع في المغرب خاضع لمرجعيات تاريخية ودينية ومؤسساتية ودستورية وسياسية خاصة، أي أنه خاضع ل”الخصوصية السياسية المغربية”. وهذه تؤدي غرضها وتبلغ مصالحها وفق نموذج خاص، وتحمي استمرارها في الزمن العيني، وتأبى أن تستدرَج للإيديولوجيات على حساب ما يحفظ مصالحها.
ـ حفظ مرجعية المجتمع: كل تعديل لا يحفظ مرجعية المجتمع، نقصد مرجعيته الدينية، فهو مرفوض في حكم الدولة قبل الحديث عن حكم الشريعة.
قد تضطر الدولة للتصرف خارج المذهب وفق ما تسمح به أداة المذهب نفسها، إلا أنها لا تخرج ولن تخرج عن المذهب، وهذا هو الوعاء النظري والتطبيقي للإسلام، وفيه يورث الإسلام إرثا صحيحا. العدول عن قول إلى قول في نفس المذهب، أو عن المذهب إلى قول في مذهب آخر قد يحدث، دون أن يُسقِط معيار الشريعة في إطارها المذهبي الخاص (الإطار المغربي).
أما أن تسلك الدولة مسلكا غير تأصيلي في تعديل مدونة الأسرة فذلك أمر مستبعد جدا، لأنه لن يكلّف الدولة في موضوع الأسرة فحسب، بل في قضايا أخرى تكون فيها المرجعية الدينية والفقهية حاسمة في بعدها الإيديولوجي والسياسي. هل تحتاج الدولة إلى هذا التذكير؟ لا نظن ذلك، لأنها أكثر قدرة من غيرها على تحديد مكانة الشريعة في ممارستها السياسية والاجتماعية.
ـ معالجة المشاكل الأسرية: من صميم حفظ تماسك الأسرة، وبالتالي المجتمع؛ أن تتحمل الدولة مسؤوليتها في تلافي عدد من المشاكل الأسرية والاجتماعية.
وذلك من قبيل: تفاقم حالات الطلاق، العزوف المتزايد عن الزواج، تفكك الأسرة قيميا رغم وجودها واستمرارها، التفاوت بين نموذجي البادية والمدينة في الأسرة، تأخر الأسرة في مواكبة تقدم الإنتاج، تعدد المرجعيات الأخلاقية والقيمية والدينية داخل الأسرة، تكلفة منازعات الأسرة في القضاء، الإرث والمفهوم الجديد للثروة الاجتماعية، علاقة الزواج المبكر بالهدر المدرسي، تكوين الأسر خارج نظام القانون، ضياع الأنساب؛ إلى غير ذلك من المشاكل التي تدخل في مسؤوليات الدولة من باب حفظ تماسك المجتمع، وتحرير تقدمه في إطار ما يتيحه معيار الشريعة، وهو كثير غني مكتنز إذا أحسن الفقهاء الاجتهاد.
ـ مواكبة الأسرة لمشاريع التنمية: الأسرة في المجتمع وحَدة إنتاجية، تستهلك القيمة وتنتجها بطريقة غير مباشرة، أي عن طريق توفير الأساس المادي والمعنوي لإنتاجها في بنى الإنتاج المختلفة، الزراعية والصناعية والتجارية والخدماتية إلخ. كل مشكل تعانيه الأسرة على وجه العموم، كل مشكل يصبح ظاهرة اجتماعية في المجتمع، يؤثر سلبا على الاقتصاد الوطني وعلى المردود الاجتماعي للأفراد في بنى الإنتاج.
هذه زاوية أخرى ينظر منها “مهندس الدولة القومية” (بتعبير عبد الله العروي) لقضايا الأسرة، بمعنى أنه يتساءل حول مدى استجابة الأسرة لبنية الإنتاج العامة، يدرس أيضا علاقتها بالسوق الوطنية والمنتوج المحلي، ويبحث في مدى استجابتها للتقدم الإداري والتقني، مع مدى قدرتها على مواكبة تقدم الدولة في التخطيط والتنفيذ.
وهكذا فالتشريع في الأسرة ليس تشريعا في محض علائق مكوناتها، إنه تشريع في أهم المجالات الاجتماعية، وأبرزها مجال الاقتصاد والتنمية.
ـ توطين القيم الأسرية: التوطين، بمعنى إكساب الأسرة مرجعية وطنية واضحة وناجعة، يحتاج إلى وحدة في الأسرة، بما تعنيه هذه الوحدة من تقليص للهوة بين البادية والمدينة، وتوحيد للأنساب، وتوحيد للمرجعيات القيمية والأخلاقية والدينية، وربط للأسرة بمشروع الدولة ورؤيتها في كافة مناحي الحياة.
ولا تتأتى هذه الوحدة إلا بتضمينها في قانون الأسرة، وهنا يتساءل المشرِّع عن مدى استجابة النظام الأسري القائم لمطلوب الدولة في مختلف رهاناتها وقضاياها ومشاريعها. وغايته أن تصبح الأسرة مشروع وطنيا، وأن تتعزز وطنيتها على النقيض من مشاريع دخيلة، لا وطنية في الحداثة، أو لا وطنية في الدين.
تفكر الدولة في الأسرة، وفي تعديل مدونتها، على ضوء هذه القضايا ومثيلاتها مما له علاقة بالمصلحة الداخلية. في المقال المقبل نناقش تدبير الدولة لمصالحها في الخارج وعلاقته بقضايا الأسرة.
ـــــــــــــــ
المصدر: صفحة الكاتب على فيسبوك
المصدر : https://dinpresse.net/?p=22289