كيف تسهم التطبيقات الذكية في صياغة أنماط جديدة للتدين؟

دينبريس
صحافة وإعلام
دينبريس25 ديسمبر 2024آخر تحديث : الأربعاء 25 ديسمبر 2024 - 8:59 صباحًا
كيف تسهم التطبيقات الذكية في صياغة أنماط جديدة للتدين؟

في عالم تتسارع فيه الخطى نحو الرقمنة، حيث تغزو التكنولوجيا أركان الحياة اليومية، تبرز تساؤلات حتمية حول مصير الإيمان الديني في ظل هذا الزخم التقني.

لقد فتحت التطبيقات الذكية، ووسائل التواصل الاجتماعي، وأدوات الذكاء الاصطناعي أبوابا جديدة أمام الممارسات الروحية، لكن هل تملك هذه الأدوات القدرة على كبح التراجع الذي كشفت عنه الإحصاءات الحديثة؟ أم أنها ستؤسس لنمط جديد من التدين الرقمي؟

وعند العودة إلى منتصف القرن العشرين، كانت صورة التدين في الولايات المتحدة تبدو أكثر رسوخا؛ إذ أشار استطلاع أجرته غالوب في عام 1952 إلى أن 98% من الأمريكيين يؤمنون بالله. ومع مرور العقود، بدأت الصورة تتغير تدريجيا، حيث كشفت بيانات عام 2022 أن نسبة المؤمنين انخفضت إلى 81%. وفي عام 2024، ارتفعت نسبة من يصفون أنفسهم بأنهم ملحدون أو لا أدريون أو بلا انتماء ديني واضح إلى 28%، بينما فضل 22% تعريف أنفسهم بأنهم روحانيون لكن غير متدينين.

ولا يقتصر هذا التحول على الولايات المتحدة فحسب، بل يمتد ليشمل أوروبا، التي تشهد انخفاضا مماثلا في نسب التدين، في حين تواصل مناطق مثل الشرق الأوسط وجنوب آسيا وأمريكا اللاتينية احتفاظها بحضور ديني قوي، ما يعكس تباينا ثقافيا وحضاريا في استجابة المجتمعات للعصر الرقمي.

وفي قلب هذا التحول، تلعب التكنولوجيا دورا متزايدا في إعادة تشكيل ملامح الممارسات الدينية، فقد أوجدت الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي منصات جديدة للوصول إلى التعاليم الدينية، والتواصل مع جماعات ذات اهتمامات روحية متقاربة، وحتى أداء الشعائر عن بُعد.

في سويسرا، مثلا، ظهر روبوت يجسد شخصية يسوع في أحد أماكن الاعتراف، ما أثار جدلا حول مستقبل الطقوس التقليدية. وعلى الجانب الآخر، نجد حالات مبتكرة لتوظيف التكنولوجيا، مثل تحويل النصوص السنسكريتية إلى أغاني راب بواسطة الذكاء الاصطناعي في معبد سري رادها كريشنا في يوتا، حيث يجمع القس كاروا داس بين التراث والحداثة.

لكن المزج بين الدين والتكنولوجيا ليس وليد العصر الرقمي وحده؛ فالمطبعة في القرن الخامس عشر ساعدت البروتستانت في نشر أفكارهم الثورية، بينما قاومت الكنيسة الكاثوليكية ما اعتبرته تهديدا لعقيدتها. واليوم، تستمر الإنترنت في هذا الإرث، مانحة الأفراد حرية انتقاء ما يناسبهم من المعتقدات، بل وصناعة نسخ شخصية من الإيمان تتوافق مع أسلوب حياتهم.

وباتت وسائل التواصل الاجتماعي ساحة ديناميكية للدعوة الرقمية، حيث تنشط شخصيات دينية في إيصال الرسائل الروحية بلغة معاصرة. راهبات مثل “بنات القديس بولس” ينشرن تعاليم المسيحية عبر تيك توك ويوتيوب، بينما يستغل الإمام صباح أحمدي المنصات الاجتماعية لتصحيح المفاهيم الخاطئة عن الإسلام.

وفي سياق آخر، نجحت ميليندا ستراوس، المدونة اليهودية، في استغلال شعبيتها لنشر الوعي حول العادات اليهودية، معيدة تشكيل الخطاب الديني داخل الفضاء الرقمي.

ولم يقتصر تأثير التكنولوجيا على النصوص والصوتيات، بل امتد إلى الأشكال المجسدة، حيث شهد معبد كيوتو في اليابان ظهور الروبوت “ميندار” كمعلم ديني، بينما استبدلت الهند الفيلة الحية بروبوتات في طقوسها الدينية. وفي ألمانيا، أُلقيت خطبة دينية باستخدام ChatGPT عبر صور رمزية رقمية في كنيسة القديس بولس.

هذه الابتكارات تفتح الباب أمام جدل أخلاقي حول الثقة في الروبوتات الدينية، ومدى قدرتها على المحافظة على العنصر الإنساني العاطفي في الممارسات الروحية، ففي هيروشيما عام 2024، اجتمع قادة دينيون عالميون لتوقيع ميثاق أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، مؤكدين ضرورة توظيف هذه الأدوات لتعزيز القيم الروحية بدلا من تقويضها.

ووسط هذا التدفق الرقمي، تبقى الأديان في مواجهة تحدٍ مزدوج: كيف يمكنها الاستفادة من التكنولوجيا دون أن تفقد جوهرها الروحي؟ إن الأدوات الرقمية توفر إمكانات هائلة لنشر المعرفة الدينية، لكنها في الوقت ذاته تطرح مخاطر تتعلق بفقدان الأصالة، واستبدال التجربة الروحية العميقة بتفاعلات سطحية وسريعة.

لقد كشف التاريخ أن الأديان تمتلك قدرة فريدة على التكيف مع التحولات الحضارية، بدء من اختراع الطباعة، وصولا إلى عصر الإنترنت والذكاء الاصطناعي، فكما تمكنت المسيحية من توسيع نطاق تأثيرها عبر وسائل الإعلام التقليدية، وكما استثمر المسلمون الإذاعة والتلفزيون لنشر القرآن وتعاليمه، تُظهر الأدلة اليوم أن الأديان تسير بخطى ثابتة نحو التكيف مع الثورة الرقمية.

ورغم كل المخاوف، يبدو أن العصر الرقمي يوفر فرصا غير مسبوقة لإعادة تعريف الدين في السياقات الحديثة، وبينما يتساءل البعض عما إذا كان الذكاء الاصطناعي قادرا على تقديم إجابات روحية عميقة، يرى آخرون أن هذه الأدوات يمكن أن تُكمل التجربة الدينية بدلا من أن تحل محلها.

في النهاية، يتوقف مصير الإيمان الديني في العصر الرقمي على قدرة الأفراد والجماعات على استخدام التكنولوجيا بحكمة، مع المحافظة على الجذور الروحية والقيم الإنسانية التي شكلت الإيمان عبر العصور. ويمضي العالم قُدما في احتضان المستقبل الرقمي، مما يطرح تحديا قويا أمام الاديان للمحافظة على هويتها، خوفا من أن تتحول إلى مجرد انعكاس رقمي لعصر السرعة.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.