محمد عسيلة*
ألمانيا، التي طالما اشتهرت بقدرتها على إدارة الأزمات بفاعلية وتحقيق التوازن بين العدالة الاجتماعية والأمن العام، وجدت نفسها أمام اختبار جديد بعد حادثة الدهس المروعة التي وقعت في ماغديبورغ. مثل هذه الحوادث لا تترك آثارًا لحظية فحسب، بل تحمل تداعيات طويلة الأمد على النسيج المجتمعي والعلاقات بين مختلف مكوناته.
في سياق سياسي واجتماعي متوتر أصلاً، تحوّلت مثل هذه الأحداث إلى نقطة محورية للنقاش حول قضايا الهجرة، الأمن، والاندماج. وبينما تسعى السلطات الألمانية لإدارة الموقف بالتحقيق في الحادثة وتقديم الجاني للعدالة، يبرز تحدٍ آخر يتعلق بتأثيرات هذا الحدث على المسلمين، الذين غالبًا ما يجدون أنفسهم في دائرة الاتهام بشكل غير مباشر.
بالنسبة لمغاربة العالم، كجزء من الجالية المسلمة في ألمانيا، فإن هذه الحادثة تأتي كمؤشر جديد على ضرورة تعزيز الجهود الرامية إلى التعايش المجتمعي والمشاركة الإيجابية في النقاشات الوطنية.
فكيف ستتعامل ألمانيا مع هذه التحديات؟
وما هو الدور الذي يمكن للمسلمين، ومنهم مغاربة العالم، أن يلعبوه في تشكيل مستقبل يضمن التماسك الاجتماعي ويحمي القيم الإنسانية المشتركة؟
حادثة الدهس التي شهدتها مدينة ماغديبورغ يوم الجمعة الماضي ليست مجرد فعل إجرامي أودى بحياة خمسة أشخاص وخلّف مئات الجرحى، بل هي مأساة إنسانية عميقة تفتح الباب أمام تساؤلات تتجاوز الأبعاد الأمنية المباشرة إلى قضايا أكثر شمولية تمس النسيج المجتمعي الألماني وعلاقته بتحديات الهجرة، التعايش، والخطاب السياسي.
هذه الحادثة المؤلمة تأتي في لحظة حساسة داخل ألمانيا، حيث تزداد الاستقطابات السياسية والاجتماعية، وتتصاعد النقاشات حول قضايا الأمن والهجرة في سياق يهيمن عليه أحيانًا خطاب التسرع والاتهام. وبينما لا تزال التحقيقات مستمرة لتحديد دوافع الجاني وخلفياته النفسية والاجتماعية، فإن التحدي الأكبر يكمن في كيفية تعاطي المجتمع والإعلام والسياسيين مع هذا الحدث بما يحقق العدالة ويعزز الثقة الاجتماعية دون الوقوع في فخ الانقسامات الخطابية.
ما يثير القلق هو أن مثل هذه الأحداث كثيرًا ما تُستغل لتعزيز أجندات سياسية ضيقة، حيث تُوجه أصابع الاتهام سريعًا إلى فئات معينة، خاصة المهاجرين والمسلمين، دون دلائل واضحة. وعلى الرغم من أن التحلي بالتأني في إصدار الأحكام أمر ضروري، إلا أن أصوات بعض الأحزاب المتطرفة قد تحاول استغلال الحادثة للضغط باتجاه قوانين أكثر تشددًا في مجالات الهجرة واللجوء، وهو ما قد يعمق مشاعر الإقصاء داخل المجتمع بدلاً من حل المشكلة من جذورها.
المسلمون، ومن بينهم مغاربة العالم، يجدون أنفسهم مرة أخرى أمام تحدٍ مزدوج. فمن جهة، يُطلب منهم باستمرار تقديم التبريرات والدفاع عن أنفسهم في سياقات لا علاقة لهم بها بشكل مباشر، ومن جهة أخرى، تتنامى الحاجة لإبراز مساهمتهم الفاعلة في بناء المجتمع الألماني وتعزيز قيم التعايش والتسامح. وبدلاً من الانسياق إلى ردود فعل دفاعية أو الاكتفاء بلعب دور الضحية، يمكن أن يكون للمسلمين دور ريادي في تعزيز الحوار المجتمعي وخلق منصات مشتركة للعمل مع كافة الأطراف، بما في ذلك الطوائف الدينية الأخرى مثل الكنائس، والمجتمع المدني، والمسؤولين السياسيين.
أحد التحديات الكبرى التي تواجه مسلمي ألمانيا، ومنهم مغاربة العالم، هو العمل على تغيير المخيال الجمعي الذي يربط الإسلام والمهاجرين بالعنف أو الجريمة. ويتطلب هذا العمل أدوات عملية وخططًا واضحة تشمل برامج تعليمية تُعنى بتقديم صورة إيجابية عن المسلمين، وتنظيم فعاليات مشتركة مع المجتمعات الدينية والثقافية الأخرى، إضافة إلى الانخراط في مؤسسات المجتمع المدني والعمل على القضايا المشتركة التي تهم الجميع بعيدًا عن الانقسامات.
المساجد والمؤسسات الإسلامية، التي تلعب دورًا محوريًا في حياة المسلمين، يمكن أن تكون أيضًا منصات للحوار وبناء الجسور مع باقي مكونات المجتمع الألماني. فبدلاً من اقتصار دورها على الجوانب الدينية، يمكن أن تسهم بشكل أكبر في مناقشة القضايا الاجتماعية وتعزيز قيم التسامح والمواطنة. ويحتاج المسلمون في هذا السياق إلى تطوير خطاب تواصلي متزن وواضح يركز على تقديم الإسلام كجزء من النسيج الثقافي الألماني، وليس ككيان منعزل عنه.
لكن المسؤولية لا تقع فقط على عاتق المسلمين أو المهاجرين. الإعلام والسياسيون يتحملون دورًا كبيرًا في ضمان أن يكون الخطاب العام حول هذه الحادثة متوازنًا وغير تحريضي. فمن غير المقبول أن تُستغل المآسي الإنسانية لتحقيق مكاسب سياسية أو انتخابية قصيرة الأمد. المطلوب هو خطاب سياسي وإعلامي يُعلي من قيم التضامن الإنساني ويتجنب تأجيج الانقسامات.
إن حادثة ماغديبورغ، رغم مأساويتها، يمكن أن تكون فرصة لإعادة التفكير في كيفية بناء مجتمع ألماني أكثر تماسكًا وتسامحًا. ويتطلب ذلك استجابة شاملة تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد النفسية والاجتماعية لمثل هذه الحوادث، وتعزز من قيم العدالة والتضامن بعيدًا عن التسرع أو المزايدات.
نسأل الله أن يلطف بالضحايا وذويهم، وأن يوفق الجميع للعمل على تعزيز قيم التعايش والسلام في مجتمع أصبح أكثر حاجة من أي وقت مضى إلى التماسك والاحترام المتبادل.
ـــــــــــــــــ
* استاذ باحث في قضايا الدين والثقافة والهجرة
استاذ محاضر بالمدرسة العليا للعلوم الاجتماعية التطبيقية بكولونيا
مستشار في قضايا الاندماج والتربية والتعليم لدى هيئات تعليمية ومدرسية ولائية بألمانيا
المصدر : https://dinpresse.net/?p=22225