محمد عسيلة*
إن تعليم اللغة العربية والدين الإسلامي والثقافة المغربية بثوابتها ومتحولاتها لأبناء مغاربة العالم يمثل أساسًا ضروريًا في الحفاظ على الهوية الثقافية والدينية وتعزيز ارتباط الأجيال الناشئة بجذورها. هذه المهمة، التي كرست لها شخصيا مؤسساتيا وفي سياق العمل التطوعي سنوات طويلة، كعمل وواجب أكاديمي وواجب وطني، أعتبره رسالة تهدف إلى بناء الإنسان المتوازن الذي يتسم بالوعي بثقافته الأصلية والانفتاح على العالم المحيط به.
من هنا، يبرز السؤال: كيف يمكن أن تسهم اللغة الأم والدين الإسلامي الوسطي بطابعه المغربي المتداول الذي يأخذ بالواقع وطبيعة الحال والتسديد في تحقيق التوازن بين الهوية الثقافية ومتطلبات الاندماج في المجتمعات الأوروبية؟ وما هي الآليات الفعالة لترسيخ هذه الهوية لدى الأجيال التي تواجه بيئة متعددة الثقافات؟
يتجدد النقاش حول الدور الحيوي الذي تؤديه المؤسسات التعليمية والثقافية في هذا الإطار، وحول كيفية الاستفادة من تعليم اللغة العربية والدين الإسلامي كأدوات لتكوين شخصية واثقة وواعية تجمع بين الأصالة والانفتاح. هل يمكن أن يكون تعليم اللغات الأصلية، مثل العربية، حلقة وصل تضمن اندماجًا إيجابيًا دون تذويب الهوية؟ وما هي أفضل الممارسات لدعم هذا التعليم من قبل الأسر والمؤسسات الثقافية والدينية، بما يضمن استمرارية تأثيره كاستثمار طويل الأمد في بناء الأجيال القادمة؟
اللغة العربية هي أداة تواصل بامتياز و هي كذلك بوابة لفهم التراث الثقافي والديني والروحي العميق. كان التحدي يتمثل دائمًا في كيفية جعل اللغة العربية حاضرة في حياة الأجيال المغربية بشكل يومي نفعي، معبرة عن مشاعرهم ومساعدتهم على بناء صلتهم بثقافتهم الأم. وأتحدث هنا كذلك على اللغات الأمازيغية بكل فروعها لأنها مكتسب وطني مغربي وكنز ثقافي هام و ذلك من خلال تبني طرق تعليم حديثة ومبتكرة، تحرص على أن تصبح الحصص الدراسية تجربة تفاعلية تجمع بين المتعة والتعليم.
وهنا يتعين التركيز على إدماج عناصر التراث المغربي، مثل القصص الشعبية والأمثال والشعر العربي والأمازيغي الريفي والسوسي والصحراوي، من الوسائل الفعالة لتعزيز ارتباط التلاميذ، فلذات أكبادنا، بجماليات لغتهم وثقافة وطنهم الأصلي المغرب وتعميق إحساسهم بالانتماء.
كما أن التعليم الديني يمثل شقًا آخر من هذه الرسالة السامية. كان الهدف دائمًا هو تربية جيل يجمع بين الالتزام الديني والروحي الوسطى كتجلي ذاتي وثقافي مجتمعي في السلوك والمعاملات والعبادات و الفهم والانفتاح على العالم والواقع المعيشى والدفع بالمشاركة المجتمعية الواعية إلى التحقيق والتجلى. من خلال تبسيط المفاهيم الدينية وتقديمها بأسلوب يعزز قيم التسامح والتعايش والعيش المشترك، سعيت إلى أن تكون الدروس فضاءً للنقاش البناء و والحوار و طرح الأسئلة التي تعكس تساؤلات الجيل الجديد.
لم يكن الغرض فقط نقل المعرفة الدينية، بل بناء شخصية مغربية متوازنة تنطلق من الأخلاق الإسلامية كما هي من داخل ثوابت ديننا الحنيف على الطريقة المغربية أو بالمرجعية المغربية والانتماء المغربي والأوروبي (لكل دولة على حدة) لتكون فاعلة في مجتمعها. نعم، إن التربية الدينية السمحة المبنية على العلم والمعرفة والوعي فرصة لتوضيح الصورة المشرقة للإسلام، الدين الذي يدعو إلى الخير والسلام والمحبة.
في هذا السياق، تظهر أهمية تعزيز التعاون بين الأسرة والمدرسة والمؤسسات المجتمعية، مثل وزارات التعليم الأوروبية (كل بلد أوروبي على حدة) والمساجد المغربية ومؤسسة الحسن الثاني ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.
إن النجاح المدرسي وصناعة هوية ممتدة وناضجة تمثل استثمارًا في المستقبل، حيث تكون الأسرة والمؤسسات التعليمية شريكة في بناء القدرات اللغوية والمعرفية للتلاميذ المغاربة في السياق الهجروي. يعتبر هذا الاستثمار جزءًا من الجهود المبذولة لإعداد جيل واعٍ بمسؤولياته، قادر على المساهمة الفاعلة في المجتمع الأوروبي مع الحفاظ على هويته المغربية.
وفي ولاية شمال الراين-وستفاليا بألمانيا التي نسكنها لأكثر من ثلاث عقود، تُقدم تجربة التعليم بلغات الأصل، بما في ذلك اللغة العربية، نموذجًا مهمًا لدعم أبناء الجاليات المهاجرة. تقدم الولاية دروسًا مجانية في أكثر من عشرين لغة أصل بما في ذلك اللغة العربية، وتعد التركية والعربية من بين الأكثر طلبًا.
كما أن تحليل الإحصائيات ونتائج بعض الدراسات تكشف أن التعليم بلغة الأصل يسهم بشكل كبير في تعزيز مهارات التلاميذ اللغوية والثقافية ويعمق من قدرتهم على فهم هويتهم المتعددة. رغم أن اللغة التركية تحتل الصدارة من حيث عدد المسجلين، إلا أن اللغة العربية شهدت نموًا ملحوظًا في الإقبال، ما يعكس وعي الأسر المغربية بأهمية هذا النوع من التعليم.
هذا العمل يتطلب جهودًا مستمرة لتنظيم التكوينات التي تستهدف الأسر المغربية والفاعلين في المساجد والمعلمين الذين يقدمون هذا التعليم. من الضروري جمع الأساتذة العاملين في المؤسسات الأوروبية أو الذين تُشرف عليهم مؤسسة الحسن الثاني، لتبادل الخبرات وتطوير المناهج التعليمية التي تواكب احتياجات التلاميذ المغاربة في السياقات الأوروبية. تلك الجهود تسهم لا محالة في تحسين نوعية التعليم وتعزز من قدرة كل الفئات المستهدفة من أطفال مغاربة العالم على الاستفادة من هويتهم كجسر بين ثقافتهم الأصلية والمجتمعات المضيفة.
يمكن القول في هذه السطور أن تعليم اللغة العربية والدين الإسلامي في المهجر يمثل أكثر من مجرد نقل للمعرفة؛ إنه بناء مستمر للهوية التي ترتبط بالجذور وفي الوقت نفسه تنفتح على المستقبل.
هذا العمل، الذي أعتبره شرفًا ومسؤولية، يترك أثرًا لا يقدر بثمن في حياة التلاميذ، كفاءات مستقبل مغربنا وراء القيادة الرشيدة لأمير المؤمنين صاحب الجلالة. الملك محمد السادس نصره الله وأيده، ويؤسس لأسس متينة تسهم في تشكيل مواطنين واثقين قادرين على صنع مستقبل أفضل لأنفسهم ولمجتمعاتهم.
ـــــــــــــــــ
* استاذ باحث في قضايا الدين والثقافة والهجرة
استاذ محاضر بالمدرسة العليا للعلوم الاجتماعية التطبيقية بكولونيا
مستشار في قضايا الاندماج والتربية والتعليم لدى هيئات تعليمية ومدرسية ولائية بألمانيا
المصدر : https://dinpresse.net/?p=21998