ترجمة يوسف اسحيردة
يميز ميشال سير (ميشال سير (Michel Serres) (1930-2019) هو فيلسوف ومفكر فرنسي، يُعد أحد أبرز الفلاسفة في الفكر المعاصر) بين ثلاثة أنواع من الحقيقة: حقائق العقل، الصارمة والقابلة للإثبات؛ حقائق الوقائع، المدعومة بالأدلة والشهادات؛ وحقائق الرأي، غير القابلة للإثبات. النوعان الأولان يتطلبان عملا منهجيا للوصول إليهما، بينما تعتمد حقائق الرأي على الذاتية. في النقاش العام، كما يظهر مع “الترامبية”، أصبحت الحقيقة خاضعة لتمثلات الأغلبية، مما يعزز الاستقطاب السياسي. فلاسفة ما بعد الحداثة ساهموا في هذا الوضع بتفكيكهم للحقيقة واختزالها في بناء اجتماعي. الإنترنت، رغم توفيره للمعلومات، لا يُنتج معرفة إلا بعمل صبور. ميشال سير يشدد على أهمية التربية واستعادة البحث عن “النقطة الثابتة”، كما فعل باسكال، لمواجهة انهيار العلاقة مع الحقيقة، دون السقوط في الدوغمائية.
نص الحوار:
سؤال: هل نحن بصدد العيش في حقبة نهاية الحقيقة؟
ميشال سير: الشكوكية قامت بخطوات عملاقة. دونالد ترامب يعترف بذلك : المهم ليس معرفة ما إذا كان ما يقوله صحيحا، انطلاقا من اللحظة التي يُعبر فيها عن ما يشعر به الناس. في النقاش العمومي لم يعد التساؤل هو ما إذا كان الأسبرين فعَّالا، وإنما التساؤل أصبح هو كم عدد الأشخاص الذين يعتقدون أن الأسبرين فعال. لقد تشوشت علاقتنا بالحقيقة.
من أجل رؤية الأمور بشكل أوضح، سأقوم بالتمييز بين ثلاثة أنواع من الحقيقة : هناك أولا حقائق العقل، الصارمة والقابلة للاثبات، مثل الحقائق المنطقية أو الرياضية. ثم هناك حقائق الوقائع، المُقرَّرة بدقة، كما هو الحال في العلوم التجريبية أو العلوم التاريخية، المدعومة بأدلة وشهادات متطابقة. وأخيرا، هناك حقائق الرأي : ما نعتقد أنه صحيح دون أن نتمكن من إتباثه. مثلا: ” كان الماضي أفضل!”.
النوعان الأولان من الحقيقة يتطلبان عملا حتى يتم إثباتهما. هذا ما يُميز الحقيقة : إنها مُتناسبة مع حجم العمل الذي يتطلبه الوصول إليها. على العكس من ذلك، لا تتطلب حقائق الرأي عملا. لسبب بسيط : المسافة الموجودة بين الذات والموضوع – المركزية في العلوم الصعبة والمحدودة في العلوم الإنسانية حيث الذات تتخذ نفسها موضوعا للمعرفة – تميل نحو الاختفاء .
سؤال: كارل بوبر يُعرِّف العلم ب”قابلية تكذيب” مقالاته. اليوم، الشك ينقلب ضد فكرة الحقيقة. ترامب يختزل الانتقادات في مجرد “أخبار مزيفة”.
ميشال سير: في العلم، القابلية للتكذيب، هي التجربة الفاشلة التي تُجبرك على مراجعة فرضياتك. ترامب يرفض عرض نفسه على التكذيب. “الترامبيون” مثاليون : يعتقدون أن العالم يُختزل في تمثلاتنا. فهم يقولون مع أنفسهم: إذا فكَّرت الأغلبية مثلنا فسنفوز. ومعهم حق، فهكذا تُربح الانتخابات. أما العلماء فواقعيون، فهم يعتقدون أن الموضوع موجود في استقلال تام عن تمثلاتنا. ومعهم حق أيضا. فالحقيقة مستقلة عن عدد الأشخاص الذين تُقنعهم.
سؤال: في كل الحضارات، نُميز بين الصادق والكاذب دونما حاجة إلى بروتوكولات العلم…
ميشال سير: هذا مؤكد، لكن من أجل إفحام الكاذب، لابد دائما من آلية مُتقنة : استقصاء، استجواب…إن الحقيقة هي ثمرة منهجية مظبوطة، وتَحَرٍّ طويل ومتواضع وصبور.
سؤال: هل يتحمل فلاسفة ما بعد الحداثة، الذين علمونا تفكيك الحقيقة، مسؤولية وضعنا الحالي…
ميشال سير: دون أدنى شك. ما هي الحقيقة العلمية؟ خلاف بين المِخْبَرِيين تُجيب سوسيولوجيا العلوم. ما هو الجنون؟ مفعول طرد العقل لخصمه يُجيب ميشال فوكو. لقد قام فلاسفة ما بعد الحداثة بممارسة حجر على الحقيقة من خلال اختزالها في مجرد بناء إجتماعي وتاريخي، نسبي وإعتباطي. وذلك في نفس الوقت الذي كان فيه العلم يفتح أمامنا إمكانية الوصول إلى أصولنا…
سؤال: هل يكون ترامب بذلك هو النسخة الوحشية للنظرية الفرنسية (الفرنش تيوري)؟
ميشال سير: إن تماثل المواقف صادم. ومع ذلك أعتقد أنهم كانوا يعبرون عن شكوكية كانت سائدة في المجتمع سلفا.
سؤال: في نظرك الأنترنيت يجعل المعرفة متاحة للجميع. لكن ألم تُساهم الشبكة في مضاعفة الشائعات والفقاعات الإعلامية؟
ميشال سير: الأنترنيت لا يُتيح المعرفة، بل المعلومة. من أجل المرور من هذه إلى تلك، يلزم عمل صبور. أما فيما يخص الفقاعات، فهي متعلقة بالفضاء العام الديمقراطي. في العصر القديم، كان الفلاسفة يتأسفون سلفا على تكَوُّن مجموعات ضغط ورأي مُعَبَّأ .
سؤال: بمجرد ما ينحدر مجتمع ما نحو الشكوكية المُعَمَّمة، كيف تتم إعادة خلق علاقة مع الحقيقة دون السقوط في الذوغمائية؟
ميشال سير: أصحاب القرار اليوم يمتلكون تكوينا في العلوم الإنسانية حصريا ولم تعد لهم علاقة بالحقيقة العلمية. هذا في الوقت الذي تُصنع فيه التحولات الكبرى من طرف البحث التكنوعلمي. ليس مُفاجئا أن يفقدوا السيطرة على الواقع. الترياق يكمن في التربية. يجب إيقاف الحقيقة على قدميها : الحس النسبي، والبحث عن النقطة الثابتة. كما فعل باسكال، الذي كان يقول بنسبية الحقيقة في مجال العادات والتقاليد والاعراف، لكن ذلك لم يمنعه (كان رياضيا وفيزيائيا) من البحث عن نقطة ثابتة.
ــــــــــــــــــــــ
Philosophie Magazine n°113
المصدر : https://dinpresse.net/?p=21897