ابراهيم الوثيقي
في مطلع القرن العشرين، بدأ صيت الرقمنة يزداد نتيجة لمتطلبات العصر الملحة لمسايرة التطور الثقافي والاقتصادي للدول المتقدمة. كان لهذا التطور أثر إيجابي في إدخال تقنيات ووسائل حديثة تساعد الإنسان على تحقيق الدقة والسرعة في أداء المهام، بما في ذلك تبليغ المعلومات وإدخال المعطيات بشكل مفصل داخل أجهزة الكمبيوتر، التي صُممت خصيصًا لتسهيل هذه المهام. ساهمت هذه التقنيات في التعريف بإنجازات وخبرات الإنسان في مختلف المجالات، سواء داخل مجتمعه أو على مستوى الدول الأخرى، عبر وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة.
ومع ذلك، فقد تخطت الحاجة الملحة لهذه التقنيات تطلعات البشرية، حتى أصبحت بين أيدي الأطفال، مما يشكل مصدر قلق كبير. تتجلى هذه الخطورة عندما يتعامل الطفل مع هذه الأجهزة المتطورة دون توجيه تربوي واضح أو إشراف من الأهل، مما يجعلهم عرضة لمخاطر عديدة، خاصة في غياب التربية الوالدية المبنية على التوجيه والإرشاد ومبدأ التدرج في التعلم.
ما هي الآليات البيداغوجية والتربوية اللازمة لتوجيه الأطفال نحو الاستخدام السليم لهذه المهارات المعلوماتية؟ ما هو دور الأسرة والمدرسة في تأطير الطفل وتوجيهه للاستخدام الصحيح لهذه الوسائل الحديثة؟ ظاهرة الهوس الرقمي لدى الأطفال تثير العديد من التساؤلات المعقدة التي تتطلب البحث والدراسة من قبل المتخصصين في مجالات المعلوميات، وعلم الاجتماع التربوي، وعلم النفس التربوي. الهدف هو تزويد الآباء والمربين بآليات وكفاءات تمكنهم من توجيه الأطفال نحو استخدام آمن وفعال لهذه التقنيات، بما يساهم في بناء شخصياتهم بعيدًا عن التأثيرات السلبية.
تتحمل الأسرة مسؤولية كبرى في متابعة الأطفال أثناء استخدامهم للإنترنت، خاصة أثناء قيامهم بالأبحاث الإلكترونية. تتخلل هذه العمليات إشعارات قد تحتوي على صور أو محتويات غير لائقة، بما في ذلك إيحاءات جنسية أو رسوم مخيفة، مما قد يؤثر على القيم التي نشأ عليها الطفل. لذلك، يجب على الآباء مساعدة أطفالهم في اختيار المواقع التربوية المناسبة التي تزودهم بالمعلومات المطلوبة وتحافظ على ثقافتهم وهويتهم. كما يجب عليهم توضيح الصور والمحتويات الغريبة التي قد تثير استغراب الطفل أو تؤدي إلى تشويش ذهني لديه، وتعليمهم كيفية الوصول إلى المعلومة دون الانغماس في مواقع غير موثوقة أو مشتتة. وعي الآباء بأثر الرقمنة على الأطفال يعد جانبًا مهمًا يجب منحه أولوية كبيرة ضمن مسؤولياتهم التربوية.
إلى جانب الأسرة، تلعب المدرسة دورًا مهمًا في هذا السياق. الإرشاد التربوي والبيداغوجي يسهم في تمكين المتعلمين من اكتساب المهارات التقنية اللازمة لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي بطريقة صحيحة. كما يعزز لديهم القدرة على استثمار مكتسباتهم المعرفية لبناء مشاريع تربوية مثمرة. رغم أن التربية الإعلامية والتكنولوجية داخل المؤسسات التعليمية لها أثر بالغ في تعريف المتعلمين بمكونات الحاسوب وتطبيقاته، إلا أن هناك تحديات تواجه الأطر التربوية، منها ضيق الوقت المخصص لمادة الإعلاميات في المناهج الدراسية، والاكتظاظ في الفصول الدراسية الذي يحد من فعالية التعليم، ونقص التجهيزات التكنولوجية الحديثة داخل المؤسسات التعليمية.
تبدو المسؤولية في ترشيد استخدام الأطفال للرقمنة مسؤولية مجتمعية مشتركة، تشمل الأسرة، المدرسة، المجتمع المدني، والجهات المختصة. المطلوب هو دمج مكونات تربوية داخل المؤسسات التعليمية لتوجيه الأطفال نحو استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بما يخدم القيم والمبادئ المرغوب فيها، مع احترام تقاليد المجتمع وثقافته.
لتحقيق هذا الهدف، يجب تخصيص فضاءات توعوية للتحسيس بأثر الرقمنة على الأطفال، وتزويد الأطر التربوية بالتدريب المستمر لمواكبة التطور التكنولوجي، وإدماج المرشدين الاجتماعيين والنفسيين في العملية التعليمية لدعم الأطفال الذين يعانون من اضطرابات نتيجة الاستخدام المفرط للتكنولوجيا. الاستثمار في تربية الأطفال وتنمية وعيهم الرقمي هو أعظم استثمار يمكن أن تقدمه المجتمعات لضمان مستقبل أفضل، حيث يكون الجيل القادم قادرًا على مواجهة تحديات العالم الرقمي بثقة ومسؤولية.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=21674