حين تصبح المساجد والمراكز الثقافية والجمعيات والمدارس منارات للوعي والمسؤولية: رؤية جديدة لمناهضة العنف ضد النساء

دينبريس
2024-11-25T13:03:34+01:00
آراء ومواقف
دينبريسمنذ 5 ساعاتآخر تحديث : الإثنين 25 نوفمبر 2024 - 1:03 مساءً
حين تصبح المساجد والمراكز الثقافية والجمعيات والمدارس منارات للوعي والمسؤولية: رؤية جديدة لمناهضة العنف ضد النساء

محمد عسيلة*
العنف ضد النساء يشكل إحدى الظواهر الأكثر إلحاحاً وتعقيداً في المجتمعات الحديثة، حيث تتعدى آثاره الجوانب الجسدية لتطال البنية النفسية والاجتماعية للضحايا. في هذا السياق، تلعب المؤسسات الدينية، بما في ذلك المساجد والقيميين الدينيين، دوراً محورياً في التصدي لهذه الظاهرة، شريطة أن تنتهج مقاربة تربوية منهجية تركز على تعزيز الوعي والمسؤولية بدلاً من الاقتصار على الأساليب التقليدية الوعظية التي تعتمد على الترهيب أو الترجّي.

لا يمكن الاكتفاء بالدعوات الروحية وحدها أو التهديد بالعقاب الإلهي، إذ يجب أن يترافق الخطاب الديني مع منهجية تربوية تربط بين تعزيز الوعي الداخلي بالحقوق والواجبات وبين استيعاب التبعات القانونية والاجتماعية للعنف. إن مسؤولية المؤسسات الدينية تتجلى في بناء بيئة تدعم النساء والفتيات وتزوّدهن بالمعرفة اللازمة لتمييز أشكال العنف الظاهرة والمستترة، وكيفية مواجهتها بطريقة فاعلة وواعية. يتطلب ذلك توفير برامج تعليمية داخل المساجد، تشمل حلقات نقاش وورش عمل موجهة ليس فقط للنساء، بل أيضاً للرجال والشباب، لتعزيز ثقافة المساواة والاحترام.

الاستفادة من التجارب الدولية، مثل المقاربة الألمانية في التعامل مع قضايا العنف، تقدم نموذجاً قابلاً للتطبيق. تتبنى هذه المقاربة رؤية شاملة تربط بين التوعية والتفعيل القانوني. من هذا المنطلق، يمكن للمساجد أن تدعم النساء في اتخاذ خطوات قانونية للتصدي للعنف من خلال تقديم الدعم النفسي والاجتماعي، وتعزيز الثقة في النظام القانوني الذي يضمن حقوقهن. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لهذه المؤسسات أن تشكل جسراً للتعاون مع الجمعيات الحقوقية ومراكز الدعم المجتمعي لتوفير حماية شاملة للضحايا.

التجربة الألمانية في مناهضة العنف داخل الكنائس والمدارس تقدم نموذجاً فريداً يجمع بين الوعي المجتمعي والمساءلة القانونية. لقد أدركت المؤسسات الدينية والتربوية في ألمانيا أهمية مواجهة العنف بأشكاله المختلفة من خلال مقاربات شاملة تستند إلى التثقيف والتدريب، مع التركيز على حماية الفئات الضعيفة، وخاصة النساء والأطفال. في الكنائس، يتم إطلاق برامج تأهيلية للقساوسة والعاملين لتعزيز مهاراتهم في التعرف على مؤشرات العنف والاستجابة لها بشكل فعال، مع اعتماد منهجيات ترفض التبريرات الدينية أو الثقافية للعنف.

أما في المدارس، فقد تم إدماج قيم التسامح والمساواة في المناهج الدراسية، مع تقديم ورش عمل تربوية تستهدف التلاميذ والمعلمين على حد سواء. تعتمد هذه التجربة على التشبيك بين الجهات المختلفة، بما في ذلك المؤسسات القانونية والاجتماعية، لضمان توفير حماية شاملة ودعم مستدام للضحايا، مما يجعلها مثالاً يُحتذى في بناء مجتمع يقوم على العدل واحترام الكرامة الإنسانية.

العمل على تعزيز ثقافة المساءلة الفردية والاجتماعية يجب أن يكون محورياً في الخطاب الديني. بدلاً من التركيز على التهديد بالعقاب، ينبغي توجيه الأنظار نحو المسؤولية الذاتية والمحاسبة الأخلاقية. يمكن تحقيق ذلك من خلال تقديم أمثلة واقعية عن الآثار المدمرة للعنف على الأفراد والمجتمع، مع تسليط الضوء على القيم الدينية التي تدعو إلى الرحمة والعدل.

المساجد والقيميون الدينيون يحملون دوراً مهماً في تغيير المفاهيم السائدة التي قد تبرر أو تتغاضى عن العنف. إن خلق فضاءات للنقاش المفتوح داخل المساجد والمراكز الثقافية والمؤسسات التربوية من روض الأطفال والمدارس والجمعيات يُعد خطوة أساسية لتشجيع المجتمع على مواجهة هذه الظاهرة. كما أن تدريب الواعظين والواعظات على التعامل مع قضايا العنف بأسلوب يرتكز على التوعية وتمكين النساء من حقوقهن يمكن أن يساهم بشكل مباشر في التصدي لهذه الظاهرة.

المسؤولية لا تقتصر على المؤسسات الدينية فحسب، بل تشمل المنظومة التربوية والمراكز الثقافية والمجتمع المدني. إن التكامل بين هذه الجهات يتيح إمكانية بناء وعي جماعي يرفض العنف ويدعم النساء في جميع مراحل حياتهن. المساجد يمكن أن تكون نموذجاً يحتذى به في تعزيز هذه الروح التكاملية من خلال مبادرات تربوية وقانونية تستجيب لاحتياجات النساء وتعزز من حضورهن كجزء لا يتجزأ من المجتمع، في إطار من العدل والمساواة.
ـــــــــــــــــ
* استاذ باحث في قضايا الدين والثقافة والهجرة
استاذ محاضر بالمدرسة العليا للعلوم الاجتماعية التطبيقية بكولونيا
مستشار في قضايا الاندماج والتربية والتعليم لدى هيئات تعليمية ومدرسية ولائية بألمانيا

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.