محمد عسيلة*
تعتبر المسيرة الخضراء من أعظم الملاحم الوطنية التي شهدها العالم في القرن العشرين، إذ لم تكن مجرد حدث تاريخي لاسترجاع الأراضي المغربية المغتصبة، بل تجسيداً لفلسفة سياسية وحضارية عميقة، ألهمت الكثير من الشعوب الساعية إلى نيل حقوقها واستعادة سيادتها. هذه المسيرة السلمية، التي انطلقت في السادس من نوفمبر عام 1975، بقيادة الملك الراحل الحسن الثاني، طيب الله ثراه، شكلت نموذجاً فريداً في المقاومة السلمية والتعبير عن الوحدة الوطنية.
لقد انطلقت المسيرة الخضراء بقرار جريء من الملك الحسن الثاني، الذي قال في خطاب تاريخي: “قررنا أن ننهج طريق السلم للوصول إلى حقوقنا، فنحن لا نريد أن نسفك الدماء من أجل ترابنا”. بهذا الخطاب، وضع جلالة الملك أساساً قوياً لفلسفة المقاومة السلمية، مؤكداً أن النضال لا يُقاس دائماً بالسلاح، وإنما يمكن أن يكون من خلال السلم والحوار والوحدة الشعبية.
على المستوى التاريخي، شكلت المسيرة الخضراء نقطة تحول في استعادة المغرب لصحرائه، وجعلت العالم يشهد على التلاحم القوي بين العرش والشعب. وقد خرج ما يزيد عن 350 ألف مغربي ومغربية، يحملون المصاحف والأعلام المغربية، متوجهين نحو الصحراء المغربية، في مشهد سلمي حضاري. هذه الملحمة التاريخية جاءت بعد كفاح طويل من أجل الاستقلال، إذ بفضل تضحيات المغاربة ودبلوماسية الملك محمد الخامس، طيب الله ثراه، حصل المغرب على استقلاله، ليأتي لاحقاً الحسن الثاني ويكمل مسيرة التحرير باستعادة الصحراء.
ولفهم أعمق لفلسفة المسيرة الخضراء، يمكننا الاستشهاد بنظريات فكرية أبرزها “القوة الناعمة” التي عرّفها المفكر الأمريكي جوزيف ناي، حيث تُعتبر المسيرة الخضراء نموذجاً قوياً للقوة الناعمة في تحقيق الأهداف الوطنية. فالملك الحسن الثاني استخدم مزيجاً من الرمزية الدينية والوطنية، مثل القرآن الكريم والعلم المغربي، ليعبر عن حق المغرب التاريخي في الصحراء بأسلوب سلمي وذكي، أثار احترام وتقدير العالم.
تستمر هذه الفلسفة في ظل القيادة الحكيمة لجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، الذي يؤكد في خطبه أهمية الحفاظ على الثوابت الوطنية وتعزيز الوحدة الوطنية كركيزة أساسية في الدفاع عن القضايا الوطنية. وفي إحدى خطبه، قال جلالته: “المغرب سيظل متمسكاً بالحق، ومدافعاً عن وحدته الترابية، ومنفتحاً في الوقت ذاته على الحوار والتعاون”، معبراً بذلك عن نفس التوجه الذي أرساه الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه.
إن الدبلوماسية الملكية اليوم تستمد قوتها من هذه الرؤية الملكية القائمة على السلم والحوار والجدية. وقد استطاع المغرب في السنوات الأخيرة أن يحقق مكاسب دبلوماسية كبيرة في هذا الإطار، حيث اعترفت العديد من الدول بمغربية الصحراء وافتتحت قنصليات لها في مدينتي العيون والداخلة. هذه الإنجازات الدبلوماسية هي ثمرة للرؤية الملكية الثاقبة التي تعتمد على الدبلوماسية الموازية، حيث يلعب الشعب المغربي، ومنهم مغاربة العالم، دوراً أساسياً من خلال الدبلوماسية المدنية والثقافية والدينية في التعريف بقضية الصحراء والترويج لمواقف المغرب العادلة.
ومع مرور الزمن، أصبحت المسيرة الخضراء رمزاً ملهماً للعديد من الشعوب التي تناضل من أجل استعادة حقوقها وسيادتها، فهي لم تكن مجرد حركة وطنية، بل أصبحت فكرة تجاوزت الحدود المغربية لتلهم العالم، وتبرز إمكانيات النضال السلمي كأداة قوية لتحقيق الأهداف الوطنية.
ولعل من الدروس المستخلصة من هذه الملحمة التاريخية، أن الشعب المغربي بقيادة جلالة الملك محمد السادس، نصره الله، ما زال متمسكاً بروح المسيرة الخضراء وفلسفتها. فالوحدة الوطنية هي صمام الأمان، والدبلوماسية هي الأداة الفعّالة، والسلم هو الطريق نحو مستقبل مزدهر.
لقد أثبتت المسيرة الخضراء أن الوحدة الوطنية، عندما تتجذر في وجدان الشعب، يمكن أن تصبح قوة هائلة تعجز عن كسرها أي قوة خارجية. فالمغاربة الذين شاركوا في هذه المسيرة كانوا يؤمنون بعدالة قضيتهم، ورأوا في استعادة الصحراء استكمالاً لاستقلالهم وسيادتهم الوطنية. لقد كانت المسيرة الخضراء مثالاً على الالتزام المشترك بين الملك والشعب، وهو التزام ينبع من إحساس عميق بالانتماء والمسؤولية تجاه الوطن.
إن فلسفة المسيرة الخضراء لم تقتصر فقط على استرجاع الأرض، بل كانت أيضاً رسالة حضارية للعالم، تعبر عن قيم المغرب الراسخة في التسامح والسلام والانفتاح على الحوار. ومن هذا المنطلق، اعتمدت الدبلوماسية الملكية على الحوار كخيار استراتيجي، بعيداً عن منطق الصراع والنزاع. وهذا ما يؤكده جلالة الملك محمد السادس، نصره الله، في خطبه المتعددة، إذ يدعو دائماً إلى الحوار كوسيلة لتسوية النزاعات الإقليمية والدولية، مع الالتزام بالثوابت الوطنية.
ويعتبر الدور الذي لعبته المسيرة الخضراء في ترسيخ الهوية المغربية مثالاً حياً على قدرة القيادة الرشيدة على استنهاض الهمم وتحقيق الانسجام بين مختلف فئات المجتمع. فقد كانت المسيرة الخضراء مشروعاً جماعياً شارك فيه الرجال والنساء من مختلف الأعمار والفئات، متحدين تحت راية واحدة وهدف واحد. وقد كرست هذه المسيرة مبادئ التكافل الاجتماعي والتضامن الوطني، مما أسهم في تعزيز الانتماء للوطن وتقوية الهوية المغربية.
وما تزال الرؤية الملكية للمغرب تحت قيادة جلالة الملك محمد السادس نصره الله تستند إلى هذه القيم الراسخة، حيث يعمل جلالته على تعزيز مكانة المغرب إقليمياً ودولياً، من خلال مشاريع تنموية كبرى وبرامج إصلاحية تسعى إلى تحسين ظروف العيش وتعزيز العدالة الاجتماعية. كما أن اهتمام جلالته بالشباب، وحرصه على إشراكهم في عملية التنمية، يعكسان إيمانه بأن مستقبل المغرب يعتمد على الاستثمار في طاقاته الشابة.
وفي هذا السياق، لعبت الدبلوماسية الموازية، والتي تميزت بها الجالية المغربية المقيمة بالخارج، دوراً محورياً في تعزيز صورة المغرب والدفاع عن قضاياه. فقد قام مغاربة العالم بالتعريف بمغربية الصحراء وبقضية الوحدة الترابية في مختلف المحافل الدولية، مسهمين بذلك في نشر الوعي حول شرعية المطالب المغربية. وقد دعم جلالة الملك محمد السادس نصره الله هذه الجهود، حيث دعا مراراً وتكراراً مغاربة العالم إلى التفاعل الإيجابي مع مجتمعاتهم المستضيفة، والمساهمة في تعزيز الحوار بين الثقافات، مما يعزز من مكانة المغرب كبلد حضاري متسامح.
إن المسيرة الخضراء هي بالإضافة إلى أنها حدث تاريخي، هي فلسفة حياة ونموذج فريد في كيفية تحقيق الأهداف الوطنية بأسلوب سلمي وحضاري. هذه الفلسفة تستمر اليوم بفضل القيادة الرشيدة لجلالة الملك محمد السادس، الذي يسعى إلى أن يكون المغرب نموذجاً يحتذى به في التنمية المستدامة والدبلوماسية الهادئة المبنية على المبادئ والقيم الراسخة.
وهكذا، يبقى المغرب، تحت القيادة الملكية، صامداً ومدافعاً عن حقوقه، منفتحاً على الحوار، ومتمسكاً بثوابته الوطنية، ليواصل دوره الريادي كدولة فاعلة ومسؤولة في المجتمع الدولي، وليظل نموذجاً ملهماً للشعوب التي تبحث عن السلام والعدالة والاستقرار.
ــــــــــــــــــ
* استاذ باحث في قضايا الدين والثقافة والهجرة
استاذ محاضر بالمدرسة العليا للعلوم الاجتماعية التطبيقية بكولونيا
مستشار في قضايا الاندماج والتربية والتعليم لدى هيئات تعليمية ومدرسية ولائية بألمانيا
المصدر : https://dinpresse.net/?p=21132