“وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ”
الصافات، الآية 49
ألفنا في جل خطاباتنا “الدينية”، والتي تنتقد واقع “تردي” و”انحطاط” أو “تأخر” و”تخلف” المسلمين من منظور ديني، أن تفسر هذا الواقع، وكما تشي بذلك توصيفاته، تفسيرا تراجعيا، بمعنى أن “انسلاخ”
المسلمين من دينهم و”تفريطهم” في التمسك بكتاب الله وسنة رسوله وعمل الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان في الأقوال والأفعال والأحوال، ذانك “الانسلاخ” و”التفريط” هما سبب ما آل إليه المسلمون من “هوان” وقد كانوا “الأعلون”؛ ولذا لن يصلح حالهم إلا بما صلح به حال الأولين منهم؛ وهو ما يجمله نعت “السلف الصالح”. وهذا هو منطلق ما يطلق عليه “سلفية”؛ على تفاوتٍ واختلاف في تعيين هذا السلف؛ بل وفي السلالة السلفية المختارة والتي تجعلنا إزاء سلفيات، القاسم بينها اعتبار المستقبلِ في الماضي، والذهابُ إلى الأمام والأعين إلى الرواء،. فقوام هذا المنظور أنه لن يصلح حال الأواخر إلا بما صلح به حال الأوائل، ولا مخرج من براثن هذا “التردي” القائم إلا باعتناق أسباب ازدهار الأسلاف. وتستنفر هذه القراءةُ جملة من النصوص الدينية الحديثة مثل الحديث الذي رواه البخاري عن عمرانَ بنِ حُصَينٍ، قال : قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: “خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ، قال عمرانُ: لا أدري أذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعدُ قرنينِ أو ثلاثةً ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ بعدَكُم قوماً يخونون ولا يُؤْتَمنونَ ، ويشهدون ولا يُسْتَشهدون، ويَنْذِرونَ ولا يِفونَ، ويَظْهَرُ فيهِمُ السِّمَنُ “.
إن هذه القراءة تعتمد مثل هذه النصوص لتنظر إلى الماضي بعين “التبجيل” و”التمجيد” و”التقديس”، ومن ثم تغيِّب في نظرتها هذه التاريخَ من ناحيتين: أولا حين تتجنب رؤية ما تخلل ماضي “السلف” من صراعات ونزاعات وإراقة دماء تداخل فيها، بقوة والتباس كبيرين، ما هو ديني وما هو سياسي؛ أي ما هو “مقدس” بما هو “مدنس”، أو ما هو “متعالي” بما هو “تاريخي”، وما هو “روحي” بما هو “إيديولوجي”؛ وثانيا تغيب هذه النظرة التاريخَ حين تنكر “صيرورة” التاريخ وتحوله المطرد، بحيث لا يمكننا ككائنات محكومة بحركة الزمان الاجتماعية والاقتصادية والمعرفية والحضارية والنفسية والتقنية؛ أن نسبح في النهر مرتين حد عبارة هيراقليط. ومن ثم فلا مجال لاستعادة التاريخ، إلا على سبيل الاستذكار، والذي هو دوما مشوبٌ بالاحتمال، بحكم نسبية المعرفة البشرية الساعية إلى الكمال لما يطبعها من نقص ملازم ومحايث.
لكن، وباستحضار التاريخِ المغيَّب في القراءة السلفية من خلال استحضار هذين الاعتبارين، نتساءل: كيف نفهم “العصر الذهبي” الإسلامي إذن؟ وكيف نتعامل مع النصوص المؤكِّدة لـ”خيريته”؟ ثم أليس “الإسلام” الذي تُمثله هذه الخيريةُ صالحا لكل زمان ومكان؟ كيف نفهم كل ذلك في ضوء الاعتبارين المذكورين؟
إن ذهبية العصر النبوي، بالنسبة إلينا، تكمنُ في حيوية التنزيل الذي كان يواكب الدعوة المحمدية، فخلال ثلاث وعشرين سنة تحقق حوار وتفاعل استثنائيان بين الوحي والتاريخ، بين السماء والأرض، بين المتعالي والبشري؛ بين الروحي والزمني، وأي سوء فهم لهذه العلاقة الجدلية سيفضي لا محالة إلى التفريط في “ذهبية” هذا العصر؛ لأن عظمته تكمن أساسا في كون المصطفى صلى الله عليه وسلم كان “بشرا رسولا”؛ أي رجلا يأكل الطعام وابن امرأة تأكل القديد، ويعاشره الناس، ويمشي في الأسواق، ويتجاوب مع كل ما تقتضيه بشريته، وفي نفس الآن يتفرد بما تقتضيه “النبوة” ويستلزمه تلقي الوحي. وهذا الجمعُ الخاص بين البعد البشري والبعد النبوي هو الذي أهله ليؤدي الرسالة الإلهية المتعالية ضمن الشرط البشري: (قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا)، الإسراء، الآية 95. وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)، إبراهيم، الآية 04؛ ومعنى اللسان هنا يتجاوز اللغة في بعدها التواصلي البسيط، بل يشمل مراعاة ذاكرة القوم وأعرافهم وعاداتهم وقيمهم…إلخ؛ أي تحقيق الهداية الإلهية من داخل الخصوصيات البشرية.
إن هذه الجدلية الخاصة في شخص النبي باعتباره “بشرا يوحى إليه”؛ هو ما يقتضي الفهمَ الرشيد حتى ندرك أن ذهبيةَ العصر النبوي تكمنُ في اعتبار التفاعل الحي والمتفرد بين مراعاة الضرورات البشرية، وهو من “علامات الرحمةِ الإلهية”؛ وبين التوجيهِ الرباني المحقِّق للتسامي والتعالي الضروريين اللذين ينحوان بالإنسان نحو أصله الإلهي، والمتمثل في صبوه للكمال الروحي المجسد في الأسوة الحسنة”. (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾، سورة الأحزاب، الآية 21. ألم تقل عائشة رضي الله عنها- كما ورد في الصحيحين في قصة سعد بن هشام بن عامر- أنَّ “خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَانَ القُرآنَ”. لقد كتب الشيخ الأكبر في “فتوحاته” : “فمن أراد أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظر في القرآن، فإن نظر فيه، فلا فرق بينه وبين النظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأن القرآن الكريم له صورة مجسدة يقال لها محمد بن عبد الله بن عبد المطلب” (“الفتوحات المكية”، دار الفكر، بيروت مج 4/ص 64).
إن مرآة الوحي الإلهي هو محمد بن عبد الله، وفهمُ المسلمين لـ “البرزخية” التي تميز بها سيدُنا محمد “البشر الرسول”، “البشر الذي يوحى إليه”؛ هذا الفهم هو المحدد لـ “ذهبية” العصر النبوي، و ما هو يقتضي عملا دؤوبا لتطوير الإفادة في تطور المعارف في علم التاريخ لتعميق وتدقيق فهمنا للبعد التاريخي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ثم الاستضاءةُ به في فهم “الوحي القرآني”؛ والعمل على الاستخلاص الدائم لعلامات “الذهبية” في العصر النبوي؛ هذه العلامات، التي ستغدو بهذا الاعتبار متجددةً بتجدد الفهم والبحث.
إنه المسار الأوحد الذي يُترجم “خلود” تلك الذهبية، ومن ثم صلاح الإسلام لكل زمان ومكان، من هنا تبدو “خيريةُ” القرون الأولى في مدى التزامها بقيم “ذهبية” العصر النبوي؛ وتغدو بالتالي خيريةً لا تاريخية أي لا ترتبط بزمن محدد، بل بكلِّ زمن يلتمس تلك الذهبية في لحظته التاريخية. إنها خيرية لا ترتبط بزمن معين بقدر ما ترتبط بمدى التمثل التاريخي للقيم التي يلخصُها الإيمانُ المقترن بمبدأ “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” في دلالاته القيمية الكونية: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)، آل عمران : الآية 110.
لن نكف عن التأكيد أن تينك “الذهبية” و”الخيرية” يجب أن تظلا محل اكتشاف دائم؛ سواء بدراسة شروطها التاريخية واستئناف النظر في النصوص الحديثية تحديدا، وتوثيقها وتحقيقها وتصحيحها وفق المنهجيات التاريخية المستجدة، أو من خلال التماس كونية تلك “الذهبية” باعتبارها شانا مستقبليا لا ماضويا؛ لأنها وببساطة ترتبط بجوهرية الإنسان وفطريته. على أن تلك الجوهرية والفطرية تقتضيان التجسيد التاريخي والتحيين الأرضي، من خلال الاجتهاد المستمر من أجل الإدراك المستجد للواقع الحاضن لتينك الجوهرية والفطرية، واللذين يمثلان عنوانَ “الذهبية” و”الخيرية” المتحدث عنهما آنفا.
إننا ندعو بإيجاز إلى “الذهاب إلى الإسلام” باعتباره مستقبلا للبشرية، وباعتبار “العصر النبوي” عنواناً متجددا لهذا الذهاب؛ من خلال البحث التاريخي والاستلهام القيمي لعلامات “الذهبية” و”الخيرية” فيه، بحيث نرى في هذه القراءة مناراً لأسئلتنا وواقعنا وهواجسنا، وبحيث يكون “القرآن”، باعتباره دائم التنزل، منزلا علينا، و”لسانا” مبينا لقومنا، ويكون النبي محمد صلى الله عليه وسلم “رسولا” لزماننا.
“الذهاب إلى الإسلام” لا الرجوع إليه، هذا هو ما نقترح التأمل فيه؛ على اعتبار أن “ذهبية” و”خيرية” العصر النبوي أساسا هما كتاب مفتوح نقرأ فيه مستقبلنا بخصوصياته وعلاماته التاريخية المتميزة، لكن بقيم الإسلام الكونية التي تشكل مشروعا للسعادة البشرية، مشروعا رسم القرآن الكريم معالمَه التي تكتشفها البشرية يوما بعد يوم، وذلك كلما طورتْ من معارفها وعلومها وسعيها نحو الاستضاءة بشكل أرقى وأوسع وأعمق بنور “عقلها”، غايتها مزيد فهم لأسرار النبوة باعتبارها النبوة الخاتمة، أي النبوة التي سنذهب دوما نحو اكتشافها، متى ما استطعنا أن نخلق جدلا وتفاعلا وتحايثا دائما بين عناصر “الذهبية” و”الخيرية” وقيمها “الجوهرية والفطرية”، وبين بشريتنا التي خلقها سبحانه دائمة التحول والصيرورة.
إن الطريق الأوحد لتجديد إيماننا، ومن ثم الذهاب إلى ربنا حيث الهدايةُ والإسلام الحق، هو المعرفة. ولنا في أبينا إبراهيم عليه السلام عظة وعبرة: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)، البقرة: الآية 260. لقد طلب المعرفةَ من أجل الاطمئنان، وتوسلَ لذلك بالسؤال، و تلك كانت عدتهُ البشرية في الذهاب نحو ربه والحظوة بهدايته. وعليه فإن كل طلب للاطمئنان والهداية، هو بالضرورة ذهابٌ بشريٌّ نحو “الحق” و”هدى الله” في المستقبل، ولا طريق لـ “الفار إلى الله” و”المهاجر نحو الحق” و”الذاهب إلى ربه” سوى سلوك سبيل المعرفة والسؤال.
{jathumbnail off}
المصدر : https://dinpresse.net/?p=2030