أي دور لمثقف زماننا؟

محمد عسيلة
آراء ومواقف
محمد عسيلة22 فبراير 2023Last Update : الأربعاء 22 فبراير 2023 - 4:51 مساءً
أي دور لمثقف زماننا؟

محمد عسيلة، أستاذ باحث في قضايا الهجرة والثقافة والدين، أستاذ محاضر بالمدرسة العليا للعلوم الاجتماعية التطبيقية بكولونيا
بعد الموضوع الذي تناولت فيه موضوع “المثقف الثرثار و موت المثقف”، أحاول اليوم إثارة دور المثقف والذي قال عنه اميل زولا “المثقف الذي فقد دوره”.

فالمثقف في معنى من المعاني هو سلطة بالمعنى المجازي والفعلي لمفهوم السلطة، له سلطان الفهم والإفهام دون التعالي، إفهام لقيم كونية عابرة للقارات لأنه استوعب صورة معينة للإنسان كمفهوم مركزي قيمي عابرا للحدود ومرتبط بكرامة وحقوق وتقدير الإنسان، سلطة مبنية على كفايات وكفاءات تقيس الواقع العام وتجس نبضه في حياد تام كتيرمومتر حرارة، داخل تداخل العلاقات الإنسانية و دون تحيز أو ميل.

هذا المثقف القيمي الذي نعنيه في هذا المقال يكون قادرا على التعبير عن عدم التناسب حين حصوله بشكل صريح وبصوت مرتفع ولديه القدرة على قول ذلك بالطريقة التي يستمع وينصت إليها الناس باللغة واللسان الذي يفهمونه، دون لف ودوران.

يقول البعض إن المثقفين كانوا موجودين بالفعل في أثينا القديمة، حيث جادل الفلاسفة والسفسطائيون حول مصالح الدولة والشعب ودور المفكر والمثقف في التغيير. واعتبر البعض الآخر أن فولتير هو أول مثقف حديث لأنه لا يوجد شيء ولا أحد في مأمن من نقده. كان بالمفهوم الدارجي المغربي “يدخل طولا وعرضا” في كل ما هو “منهجي” ضيق دون رحمة وشفقة ويثور في وجه الظلم والتظلم والحيف.

فالجدل والجدال عن المصلحة لدى اليونان والجهر بالحق عند فولتير مؤشران لوصفة ولخلطة لمكونات شخصية وسيكولوجية وجغرافية المفكر المثقف. فكان من أشهر أقوال فولتير “أولئك الذين يمكن أن يجعلوك تصدق السخافات، يمكن أن يجعلوك ترتكب الفظائع” وكثير من أشباه المثقفين يجعلونك تصدق السخافات و “أحبوا الحقيقة، ولكن اغفروا للخطأ ” وكثير من أشباه المثقفين لا يجعلونك تحب الحقيقة ولا يغفرون الخطأ إن تحقق و”الحياة حطام سفينة، لكن يجب ألا ننسى الغناء في قوارب النجاة.” وكثير من أشباه المثقفين يعلنون أن الغناء حرام وهم يغنون حين يختلون بأنفسهم.

فانخراط المثقف في خلق الغبار والضوضاء الحاجبة للحق والحقيقة المبحوث عنها دائما، يكون مساهما في خلق مشكلة ماكرة وشريرة، تشغل الناس وتعطل مسار الفهم لهم للوصول إلى درجة الإحسان في مفهومنا الإسلامي الذي تربينا عليه: “إن لم تكن تراه، فإنه يراك”.. وبهذا يجوز لنا نعت هذا المثقف الذي يتخلى عن دوره وانخراطه وشدوه وصدحه بالحق بالمثقف الثرثار والمنافق كما أشرت في مقالي السابق.

الآن نحن بحاجة إلى ولادة جديدة للمثقف، مثقف قادر على المساهمة في التنوير ورقي القيم كأسلوب حياة، بحاجة إلى مثقف ملتزم بالمبدأ وبما يمليه عليه الضمير والعقل العالم، بحاجة إلى مثقف مساهم في صناعة بنيات التدخل الفكري والتجويد وليس وأده والمساهمة في تبخيسه ومحاولة إبعاد الشرفاء من الأمة ليبقى مستحوذا على “المكان والزمان” له وحده، مسخرا في ذلك زبانية غلاظ في اللؤم والمكر والدهاء والنقمة ك”حراس لمعبده”.

إن تقدم الدمقرطة وظهور الصحافة الجماهيرية الحديثة، وأشباه الصحفيين والمثقفين، أظهر ذلك كله نوعا جديدا من الأسواق الجماهيرية الشعبوية التي تتعامل بمكيال العرض والطلب والتدليس ليس إلا والمثقف مطالب أن يبتعد عن هذه “الأسواق” والسوقية البذيئة ولا يضع يديه في أيدي الدجالين والمشعوذين وقراء الفناجين والسماسرة لإن سلعته الفكرية ـــ تجاوزا نسميها سلعة ـــ يجب لزوما أن تبقى عفيفة، متعففة، نقية وطاهرة وفاضلة.

إن الجدل الدائر حول وضع المثقفين منذ نهاية القرن العشرين وإلى كتابة هذا المقال هو في حد ذاته علامة صحية على المثابرة الفكرية والبحث وعدم الاستكانة إلى السكون المضلل الذي تأتي بعده العاصفة ومن المنطقي تمامًا، بالنظر إلى حاضرنا وواقعنا، أن نسأل نحن كذلك عن نوع جديد من “المثقفين” المنخرطين بلغة جرامشي، نوع من “المثقفين العضويين”. فليس هناك ما يدعونا إلى ترك حقبة ودور المثقفين تنتهي بمجتمع السوقية كماكينة تأتي على الأخضر واليابس للأسف.

فالمثقّف العضويّ يعدّ من أهمّ أنواع المثقّفين في اعتقادي، وأكثرهم شمولية، وهو المثقف الّذي يصعب على السّلطة كيفما كانت تلك السلطة، أو المصلحة الشخصية أو الإيديولوجيّات احتواءه أو تطويعه. إن هذا المثقّف الذي نسعى إلى “ولادته” يجب أن يكون قادرا على أن يرى عقده النفسية وأمراضه السيكولوجية بعين الحقيقة وينظر في موضوع معيّن من كلّ الزّوايا والجهات في حياد تام. وإذا أثبت لنفسه بأنه مريض مرضا نفسيا عضالا، عليه أن يتقاعد ليحرر نفسه والآخرين ولا يكون معديا لهم بجهله المركب ونرجسيته.

إن المثقّف العضويّ هو كذلك ورغم كونية قيمه، يبقى مثقفا وطنيا و ناقدا لأنه يشتغل من المحلي إلى الكوني بصفته جزء من واقعه الزمني والتاريخي والجغرافي. فهو بهذا دعامة الوجود والهوية الإنسانية، ويجب أن تساهم معرفته في تجويد الوجود الإنساني بمعناه المعرفي الإبستيمي والقيمي والأنطلوجي الوجودي، وجودا و معرفة تنبع من الخير والفضيلة، خادما بهذا تحقيق الخير والفضيلة والحقيقة قبل كلّ شيء.

ولا يفوتني هنا أن أعرج على مارتن هايدجر الذي بين أن المعرفة العليا للفيلسوف هي الحياة الفعلية للروح وعلى الإنسان بشكل عام والمثقف بشكل خاص و الذي نريده أن يولد ولادة جديدة أن يقف موقفاً متسائلاً يصون الكينونة من تسلط الكائنات المتصارعة المتهالكة المستنفدة للجمال وللطمأنينة والخير. فالفكر والفلسفة لا تزدهران إلا في فن التساؤل السليم عن أدوارنا في الحياة. فمن أنت أيها المثقف أو الذي تنعت نفسك بالمثقف؟ هلا وقفت يوما على أدوارك في مجتمعك وفي محيطك، ما حققت ولم تحقق؟

وعليه لا بد لنا من تفكيك دور وشخصية المثقف تفكيكاً لا هدم فيه ولا تدمير ولا إلغاء كما أشار بذلك هايدغر في “الكينونة والزمان”، ونستثمر في الكينونة الفكرية المبنية على القيم والأخلاق في مسالك الزمان ومجاري التاريخ، دون خوف ودون أنانية ودون وضع اليد في يد الشياطين لتحقيق الغبار والفوضى ويحافظ هذا المثقف الثرثار والمريض النفسي النرجسي على معاشه البطني للأسف.

Short Link

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.