ذ. محمد جناي *
أصبحت إدارة الجودة الشاملة محور اهتمام دول العالم ، باعتبارها السبيل الذي يحقق لها الميزة التنافسية في المجالات كافة ، الإنتاجية منها الخدمية ، وبما يجعلها تحافظ على هويتها ورسالتها في ظل السباق المحموم الذي يشهده العالم اليوم بين مختلف التنظيمات والدول ، وفي المستويات كافة، وعبر مختلف الميادين، فإدارة الجودة الشاملة تعد الركيزة الأساسية لنموذج متطور في علم الإدارة يتيح للدول والمنظمات المتقدمة والمتنافسة فيما بينها مواكبة التطورات والتغيرات البيئية والإحاطة بكافة المستجدات العلمية والتقنية من أجل التكيف معها وفق أحدث الطرق والأساليب.
ومن أجل النهوض بالعملية الإدارية بالمؤسسات التربوية ومسايرة الاتجاهات الحديثة ومعالجة المشكلات التي تواجهها العملية التعليمية والنهوض بها ، كان من الضروري مسايرة الأسلوب المتبع في المجالات الإنتاجية والاقتصادية للنهوض بالعملية التعليمية وتطوريها، ويتمثل في انتهاج أحد الاتجاهات الحديثة في الإدارة التي فرضت نفسها ومن أهمها إدارة الجودة الشاملة ( TQM ).
فأسلوب إدارة الجودة الشاملة يعتبر إحدى الركائز الأساسية لنموذج الإدارة الجديد الذي تولد لمسايرة المتغيرات الدولية والمحلية ومحاولة التكيف معها، فأصبح المجتمع العالمي ينظر إلى إدارة الجودة الشاملة والاصلاح التربوي ، باعتبارهما وجهين لعملة واحدة، بحيث يمكن القول إن الجودة الشاملة هي التحدي الحقيقي الذي سيواجه الأمم في العقود القادمة.
والجودة في المجال التربوي حسب بعض الباحثين تعني :” إيجابية النظام التعليمي ، بمعنى أننا إذا نظرنا على أنه استثمار مجتمعي له مدخلاته ومخرجاته، فإن جودته تعني أن تكون هذه المخرجات جيدة ومتفقة مع أهداف النظام التعليمي، من حيث احتياجات المجتمع ككل في تطوره ونموه واحتياجات الفرد باعتباره وحدة بناء هذا المجتمع “،في حين يرى آخرون أن الجودة في مجال التعليم عبارة عن ” قدرة الإدارات التعليمية في مستوياتها ومواقعها المختلفة على أداء أعمالها بالدرجة التي تمكنها من تخريج خريجيين يمتلكون من المواصفات مايمكنهم من تلبية احتياجات التنمية في مجتمعهم طبقا لما تم تحديده من أهداف ومواصفات لهؤلاء الخريجين”.
لهذا جاءت إسهامات رواد إدارة الجودة الشاملة لتعزز وتعمق أهمية إدارة الجودة الشاملة ، فكانت بمثابة محاولات فكرية وسنقتصر على نموذج إدوارد ديمنج في هذا الشأن ، و هذا الأخير هو مستشار أمريكي يلقب بأنه أبو ثورة إدارة الجودة الشاملة ، ويعتبر ديمنج من أسباب نجاح وتفوق اليابان في تحقيق الجودة، حيث قدم نظريته الجديدة في الإدارة على مستوى المصنع ، والتي سماها -آنذاك- 《الرقابة الإحصائية على الجودة 》 وخلال محاولته تطبيق النظرية على الصناعات الأمريكية في تلك الفترة من الأربعينيات من القرن الماضي لم يلق أي تجاوب، ونتيجة لذلك تحول إلى تطبيقها في المصانع اليابانية بعد أن سافر إليها، وعمل على رفع مستوى الوعي بأهمية الجودة، واستعمال الطرق الإحصائية في تحليل البيانات، وفي هذه الفترة تم إقصاء المديرين اليابانيين من كبار السن، وإرسال المئات من المديرين الشبان إلى أمريكا لتلقي علوم الإدارة هناك، وكان شعور اليابانيين بالفضل والعرفان نحو 《ديمنج 》كبيرا ، الأمر الذي جعلهم يخصصون جائزة باسمه تمنح للمنظمات التي تحقق نجاحا فارقا في مجال الجودة، كما قلده امبراطورها وساما رفيع.
حيث أكد ديمنج في نموذجه على عدد من الجوانب المهمة للإدارة أوجزها في أربعة عشر مبدأ، كإطار عام للإدارة العليا لتحقيق الجودة، بحيث يمكن للمنظمات الاستعانة به من أجل وضع نموذج خاص بها ، وشعاره هو: ” أن العنصر البشري هو الأساس ومحور الاهتمام”.
فتعد مبادئ ديمنغ من أكثر المبادئ تطبيقا على نطاق واسع، وتهدف إلى الوصول بالمنظمة إلى حالة أقرب إلى الكمال ، وهي تشكل منظومة متكاملة لتحقيق الجودة ولهذا قام ديمنج بوضع معايير عدة لإدارة الجودة الشاملة في المؤسسات التعليمية وهي :
الأول: وضع أهداف ثابتة من أجل تحسين إعداد المتعلم وتزويده بخبرات تعليمية ممتعة تعمل على تنمية شخصيته بشكل متكامل.
الثاني: تبنى الإدارة التربوية لفلسفة جديدة تثير التحدي لكي يتعلم المتعلم تحمل المسؤولية والمبادرة.
الثالث: تغيير هدف الرقابة من كشف الخطأ والمحاسبة، إلى رقابة وقائية تستهدف منع وقوع الخطأ وتقديم الدعم لمن يخطئ ، ليتخطى الأداء الخاطئ ويتابع ويستمر، أي عدم الاعتماد على نظام نقط المراقبة فقط كأساس لتحديد مستوى أداء التلميذ.
الرابع: توثيق الارتباط بين المراحل التعليمية المختلفة بهدف تحسين الأداء لدى المتعلمين خلال كل مرحلة ، وعند الانتقال من مرحلة لأخرى مع الاهتمام بتوفير سجل شامل لهذا الانتقال.
الخامس: التحسين الدائم للخدمات التعليمية المقدمة في المؤسسات من أجل تحسين الأداء لكل فرد في المجتمع بعد تخرجه.
السادس: الاهتمام بالتكوين المستمر في مجال تحسين جودة الأداء لكل من الإدارة التربوية والمدرسين والمتعلمين وبعض فئات المجتمع المهتمين بالعملية التعليمية.
السابع: تبني وتأصيل القيادة الإدارية ، وتفعيل دورها في تحسين النظام، نواتجه وعملياته ومخرجاته، باستمرار نحو الأفضل، وذلك بإيجاد القيادة الفعالة من أجل مساعدة العاملين على حسن استخدام التقنيات والإمكانات لتحقيق أداء أفضل يساعد المتعلمون على الابتكار والإبداع.
الثامن: تجنب الشعور بالخوف حتى يتمكن كل فرد من أداء عمله في بيئة تربوية تتسم بالحرية وقادرة على مواجهة الصعوبات والمشكلات.
التاسع: الاستقرار الوظيفي للعاملين، وتوفير الأمان لهم، وإبعاد شبح الخوف عنهم.
العاشر: التوقف عن استخدام سياسة التقييم القائمة على أساس الكم، والتوجه إلى سياسة التقييم على أساس الجودة النوعية المحققة، واعتبارها المعيار الأساسي للتقييم.
الحادي عشر: تشجيع السلوك القيادي الفعال لدى الأفراد، النابع من دوافعهم الذاتية لتحسين الأداء.
الثاني عشر : تجنب ومقاومة الخوف من التغيير.
الثالث عشر: التركيز على عملية التطوير الذاتي للعاملين، وإكسابهم معارف ومهارات جديدة.
الرابع عشر: تعزيز العمل بروح الفريق الواحد داخل المنظمة، وذلك لتحقيق التحول إلى نظام الجودة من خلال فرق العمل والمشاركة المستمرة كفلسفة عمل.
إذن يتضح لنا أن الجودة الشاملة تعبر عن عملية مستمرة، تسمح بالتغلب على المعوقات التقليدية وتسمح للمديرين بالاستفادة من الطاقة الهائلة والكامنة داخل الأفراد في المنظمة، من خلال ارتكاز الفلسفة على مجموعة مبادئ إرشادية يمكن تطبيقها على المنظمات الكبيرة والصغيرة، مع ملاحظة أنه ليس هناك أبدا وقت تنتهي عنده عمليات التحسين ، عندما تصبح الجودة سليمة بنسبة % 100 ، وهذا سر فلسفتها، فهي تقوم على طريقة شاملة لتحسين الجودة باختيار طرق أداء العمل بشكل منظم ومتكامل ومستمر ومتصاعد وطموح.
وإن عملية التغيير في الإدارة ليست عملية عشوائية ، بل هي عملية دقيقة مدروسة ، مبنية على أسس ومبادئ علمية ، فالتغيير في فلسفة إدارة الجودة الشاملة تحدث في النظم التعليمية نتيجة الرغبة في مواكبة الحياة، وتشير أدبيات التغيير التربوي أن معظم البحوث حول ظاهرة التغيير تأتي من منظور سياسات تعليمية أو إدارية ، ولكل فئة تتأثر بالتغيير التربوي موقفها الخاص من التغيير ، فالسلطات العليا تنظر إلى الأمر من منظور يحل لها مشاكلها التعليمية والمدرسية ، والأمهات والآباء وأولياء الأمور ينظرون من زاوية تحسين العملية التعليمية والجودة النوعية لأبنائهم.
وختاما ، يتطلب تطبيق إدارة الجودة الشاملة توفير قاعدة معينة من البنى التنظيمية الإدارية والاجتماعية داخل المنظمة وخارجها، بحيث توفر المناخ المناسب لإمكانية التطبيق، مثل توافر القناعة التامة لدى الإدارة العليا بأهمية هذا المفهوم، وجعل الجودة في مقدمة أولويات واستراتيجيات الإدارة العليا، والعمل على نشر هذه القناعة والالتزام والإيمان بها، ولا بد كذلك من توفر قاعدة للبيانات تشمل معلومات دقيقة شاملة لواقع المنظمة، والخدمات التي تقدمها، والمستفيدين منها، وصعوبات إنجاز العمليات بشكل دقيق، بما يضمن تقييم واقع المنظمة، وتحديد المشكلات القائمة والمتوقعة، والأسباب التي تدفع المنظمة لتبني هذا المفهوم .
* متصرف تربوي بالمديرية الإقليمية القنيطرة
ــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
(1): إدارة الجودة الشاملة (TOM) المفهوم والفلسفة والتطبيقات، إعداد وتأليف: د. بهجت عطية راضي و د. هشام يوسف العربي، الناشر : شركة روابط للنشر وتقنية المعلومات ،الطبعة الأولى 2016 القاهرة.
(2): دورة إدارة الجودة، رواق التعليم العربي المفتوح ، من تقديم المحاضر: د. ابراهيم عبد الله المالكي، مدير ادارة الجودة بالمديرية العامة للشؤون الصحية بمنطقة الرياض ومقيم معتمد في القيادة والجودة من المجلس المركزي لإعتماد المنشآت الصحية بالسعودية.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=19229
سفيانمنذ سنتين
تحياتي استاذ محمد