بقلم زهير العلالي
نظمت “شبكة المقاهي الثقافية بالمغرب” بدعم من “وزارة الشباب والثقافة والتواصل-قطاع الثقافة” لقاء ثقافيا يوم الخميس 27 أكتوبر 2022 في بهو “مقهى لوسافير بالاص” بمدينة القنيطرة بمشاركة ثلة من النقاد المغاربة: سعيد يقطين، وإدريس الخضراوي، وعزيز العمراوي، ومحمد الداهي. سير اللقاء الذي دام من الرابعة والنصف إلى غاية الثامنة مساء الباحث الشاب العربي الحضراوي، وتابعه جمهور غفير حرصا على إرواء عطشه المعرفي الغليل.
أعرب الباحث الناقد سعيد يقطين- في البداية- عن سروره وغبطته بتقديم كتاب محمد الداهي، “السارد وتوأم الروح من التمثيل إلى الاصطناع” الذي حصل بموجبه على جائزة الشيخ زايد للكتاب في دورتها السادسة عشرة، فرع الفنون والدراسات النقدية لعام 2022، معتبرا إياه عملا جادا قلما نجد نظيره في مجال النقد، وقيمة مضافة إلى النقد العربي برمته. وبين سعيد يقطين- بحكم الجوار و العمل المشترك- أنه عايش فترة تأليف الكتاب، مشيرا إلى أن “الرجل كان مهووسا به هوسا لا نظير له، والدليل على ذلك هو مدى فرحه باقترابه من إنهاء تأليفه”.
أوضح سعيد يقطين في الندوة الثقافية أن الكتاب يحتوي على مجهود كبير وإحاطة واسعة بالسيرة الذاتية وبكل ما يدور في فلكها، وهو ما يجعل صاحبه رائدا من رواد الكتابة السيرذاتية في الثقافة العربية الحديثة.
ونبه الناقد ذاته إلى أن أهمية الكتاب وجديته تكمنان في الموضوع الذي اشتغل عليه محمد الداهي، وفي المراجع الأجنبية التي اعتمدها وفي المتن السردي العربي القديم والحديث الذي تناوله، ثم في الطريقة التي عالج بها المتغيرات السيرذاتية؛ الأمر الذي يجعل الكتاب مصدرا مهما لمن أراد الاشتغال في المجال السيرذاتي. أكد سعيد يقطين أيضا أن قيمة أي عمل من الأعمال في الدراسات الأدبية لا تكمن في ما يقدمه، بل في ما يثيره من أسئلة وإشكالات للتفكير فيها، بهدف تطوير المعرفة وفتح منافذ جديدة للبحث .”إن كل عمل لا يفتح للباحث منافذ للبحث هو عمل مكتمل أو بتعبير آخر منته”؛ أي أنه مغلق على ذاته في حين يجب أن يكون مفتوحا لحفز القراء والمختصين على قراءته والدخول في حوار بناء معه. وفي هذا الصدد، أشاد سعيد يقطين بمحتويات الكتاب لأنها ستفتح آفاقا جديدة للبحث العلمي، خاصة وأن محمد الداهي يتوفر على مؤهلات علمية بإمكانها أن تساعده على إثارة الموضوع عينه من زوايا ومنظورات أخرى.
“يتناول السارد وتوأم الروح” – بحسب سعيد يقطين- الثنائية الأزلية المتمثلة في العلاقة بين الذات والموضوع، على اعتبار أن السؤال الفلسفي الذي يمكن صياغته في هذا الإطار يتمثل في (لماذا نكتب عن أنفسنا؟)، مفضلا أن يسمي “الكتابة عن الذات” بـ”السرد الذاتي”. وبما أن الكتابة عن الذات- في نظره- هي “تعبير عن إنسانية الإنسان”، وجب علينا أن نكتب عن ذواتنا وسرائرنا وهو ما “سيقربنا من بعضنا البعض، رغم أن الأمر أصبح مختلفا مع الوسائط الجديدة التي تتطلب البحث والدراسة”.
ختم سعيد يقطين مداخلته بثلاث أفكار تهم علاقة المؤلف بذاته: أولها أن الرواية هي “سيرة ذاتية مقنعة” لأنها تريد أن تعكس صورة الراوي في العالم الذي يعيش فيه، بينما السيرة الذاتية هي رواية مكشوفة يسعى صاحبها من خلالها إلى خلق ميثاق جديد مع القارئ. وتتمثل الفكرة الثانية، في أن البحث في الكتابة الذاتية يفرض على القارئ الانطلاق من البحث في أنواع السرد الذاتي التي جرد محمد الداهي بعضها في إطار التجاذب البينيِّ على حدود الرواية والسيرة الذاتية. وتتجسد النقطة الثالثة في ضرورة كتابة تاريخ للسرد الذاتي، من أجل النظر في تحول نصوص السيرة الذاتية العربية منذ بدايتها إلى العصر الحديث؛ الأمر الذي سيساعد على رصد تطور الذات العربية عبر مراحل تاريخية، وبالتالي على مواكبة تطور الإنسان العربي في علاقته بالعالم الذي يعيش فيه.
شبكة المقاهي الثقافية بالمغرب تحتفي بالكتاب المتوج بجائزة الشيخ زايد العالمية لعام 2022 “السارد وتوأم الروح من التمثيل إلى الاصطناع” للباحث الناقد محمد الداهي
وقال الناقد إدريس الخضراوي- معرض حديثه- إن أهمية مؤلَّف الناقد محمد الداهي “السارد وتوأم الروح”، تكمن في القضايا التي تناولها وطريقة معالجتها في سياقين اثنين أحدهما عام والآخر خاص. يتجلى السياق العام للكتاب في تطويق مفهوم الأدب بمجموعة من الأسئلة التي تعيد النظر فيه وتذهب إلى وضعه موضع شك، على غرار مجموعة من الأعمال التي سيطر عليها هاجس النهاية مثل “أفول الثقافة الفرنسية” لجون ماري دومينيك، و”وداعا الأدب” لويليام ماركس و”الأدب في خطر” لتزفيتان تودوروف و”نزع السحر عن الأدب” لريتشارد مي، مشيرا إلى أنه رغم ذلك، يمكن فهم النهاية هنا على أنها بداية جديدة يمكن أن يفتحها الأدب لتغيير جلده.
إن السؤال -الذي تندرج في إطاره هذه المؤلفات- يرخي بظلاله على مسألة الأجناس الأدبية وفي طليعتها السيرة الذاتية التي ما عاد بالإمكان النظر إليها وفق الأعمال التي دشنها مجموعة من الكتاب والمبدعين الحديثين استنادا إلى مفهوم الحقيقة، بل أصبحت هناك أعمال جديدة ظهرت منذ نهاية الألفية الثانية وبداية الألفية الثالثة إلى حدود هذه المرحلة تعاود النظر في مفهوم الحقيقة، وتبين تدخل وسائط مختلفة – كما ورد في كتاب محمد الداهي- في نقل ما وقع فعلا بالوسيط السردي والتيخييلي. وهكذا، لم يعد هاجس الحقيقة هو الهاجس الأساسُ، بل حتى اللغة التي كان يُعتقد أن بمقدورها نقل أو تمثيل الواقع أصبحت محط شك.
أما فيما يتعلق بالسياق الخاص الذي يرتبط بالنقد المغربي أساسا، بين إدريس الخضراوي أنه بدأ ينفتح هو الآخر -مع بداية الألفية الثالثة- على أسئلة جديدة، وبالتالي يطور افتراضات مختلفة فيما يتعلق بالتعاطي مع الأدب، ضاربا لذلك مثلا بالناقد سعيد يقطين الذي انتقل من السرديات البنيوية إلى السرديات ما بعد الكلاسيكية.
كما أبرز المتدخل، أن هناك ميلا من طرف المشتغلين داخل السيميائيات إلى افتراضات يمكن اقترانها بالأدب، وكتاب محمد الداهي متأثر أيضا بهذه التحولات الأدبية في المغرب وفي العالم العربي، من خلال ظهور العديد من الإبدالات مثل الدراسات الثقافية والدراسات الثقافية المقارنة ودراسات ما بعد الاستعمار وغيرها من الأبحاث التي تتضافر وتتكامل فيما بينها بالحصر على توسيع مفهوم الأدب والبحث له عن منزلة جديدة. تؤطر مزايا كتاب “السارد وتوأم الروح” وفق المستويين الآتيين: الأول بويتيقي أو شعري والثاني يتعلق بالسيميائيات الذاتية.
يحضر المستوى الأول من خلال الأعمال التي حاورها محمد الداهي مستندا إلى خلفياتها، وهو ما جعل الكتاب يتمحور حول شعرية الذاكرة. أما الثاني، فتعلق بالسيميائيات الذاتية، معززا بالتيارات النقدية والمعرفية التي تحظى اليوم باهتمام مختلف الدارسين والباحثين حول العالم، على غرار حقل الدراسات الثقافية ودراسات ما بعد الاستعمار”. كما يتجلى ذلك، بحسب الناقد نفسه، من خلال المفاهيم التي وظفها الكاتب، مثل مفهوم الذاكرة كما بلوره الفيلسوف الفرنسي بول ريكور، في مؤلفاته: “الزمن والسرد” و”الذاكرة والتاريخ والنسيان”، و”التاريخ والحقيقة”.
ومن بين المفاهيم الملائمة- التي لفتت انتباه الباحث إدريس الخضراوي في كتاب “السارد وتوأم الروح”- المنطقة البينية، التي تعد الأطروحة الأساسية للكتاب للنظر في كثير من الأعمال التي تلتبس في هويتها بحكم الانجذاب إلى التخييل والواقع في الآن نفسه. علاوة على استثمار مجموعة من المفاهيم على غرار مفهوم الاصطناع Simulacre الذي أحدث ثورة في العديد من الحقول المعرفية بما فيها الأدب، وهو ما خول للداهي -بذكائه النقدي- الاشتغال على مدونة سيرذاتية واسعة ضاربة بجذورها في التراث العربي أو في الأدب العربي المعاصر أو في الآداب العالمية.
وسم عزيز العمراوي مداخلته بـ”أقنعة الناقد.. تجربة محمد الداهي مثالا”، مقتديا برولان بارث الذي لا زال إرثه النقدي محافظا على راهنيته ومؤثرا في الدراسات الثقافية وما بعد الحداثية في مختلف أقطار العالم. وهو ما نعاينه- على غرار محمد برادة وسعيد يقطين وسيعدي بنكراد وأحمد اليبوري- في المنجز النقدي للناقد محمد الداهي الذي يعتبر من المؤثرين في النقد العربي بشقه مسارب جديدة في تضاريسه المختلفة والمتنوعة، واقتراح تصورات جديدة تنزاح عن “النزوع الأكاديمي المتعالي”، وعن “المقاربات التقنوية”، وتبين جدوى الأدب في إثارة أسئلة سياسية تهم مصير الإنسان العربي وتطلعاته.
كشف عزيز العمراوي أقنعة الدكتور محمد الداهي بوصفه ناقدا وباحثا ومثقفا، عن الطريق التذكير بعدد من أعماله وأبحاثه الموزعة بين الترجمة والتأليف، حيث ترجم جملة من المقالات وفصولا من الكتب لنقاد ومفكرين مختلفين، على غرار ميخائيل باختين ولوسيان غولدمان وبيير زيما ويورغن هابرماس ورولان بارث…
وقال العمراوي، إن الداهي لم يكن مطمئنا للمكاسب البنيوية شأنه في ذلك شأن كل من محمد برادة ومحمد البكري وأحمد اليبوري وسعيد بنكراد وسعيد يقطين بحكم انتماءاتهم السياسية والثقافية، وحذرهم من المقاربات التقنوية للبنيوية؛ ما جعلهم يتخذون مسافة إزاءها وإن استفادوا من تراكماتها التي حثتهم على الاهتمام ببنية العمل الأدبي وأدبيته، حيث استندوا إلى الخلفيات السوسيولوجية للتحرر من النزعة المحايثة وربط النص بسياقه الاجتماعي والثقافي، وبيان شروط إنتاجه وتلقيه. في هذا السياق انفتح محمد الداهي على المكاسب التلفظية في الإرث الفرنسي(إميل بينفنيست، انطوان كوليولي، كاترين-كربرات أوركيوني، بيير زيما) أو في الإرث الروسي (ميخائيل باخيتن)، ليكون من ثمار ذلك، تأليفه “سيميائية الكلام الروائي” ، و”سيميائية السرد بحث في الوجود السيميائي المتجانس” و”سلطة التلفظ في الخطاب الروائي العربي” و”التشخيص الأدبي للغة والمجتمع”.
أوضح عزيز العمراوي كيف سعى محمد الداهي- منذ صدور كتابه “شعرية السيرة الذهنية محاولة تأصيل” عام 1994- إلى تأصيل الأدب الشخصي العربي باعتماد عدة مفاهيمية تزاوج بين مكاسب الشعرية والسيميائيات الذاتية (ألاعيب التحقق/لعبة الظاهر والكينونة)؛ وذلك تطلعا إلى استيعاب هوية أجناس ملتبسة على الحدود وعصية على التجنيس.
أما في ما يتعلق بالجانب البيداغوجي، فقد قال د. العمراوي، إن محمد الداهي كرس وقتا طويلا من عمره لتدريسيَّة النصوص بالاعتماد على مقاربات بيداغوجية جديدة وقراءات منهجية متطورة سعيا إلى تحسين القدرات التواصلية والمنهجية للمتعلِّم؛ إذ ساهم في إصدار سلسلة “المختار في اللغة العربية” برفقة فريق بيداغوجي مؤهل، وكذلك سلسلة مقاربات خاصة بالمؤلفات النقدية والسيرذاتية المبرمجة في التعليم الثانوي التأهيلي، مشيرا إلى أن هذه الإسهامات خلفت صدى طيبا في الأوساط المدرسية والجامعية، لأنها تؤطر المعرفة في إطار البيداغوجية النشطة التفاعلية، التي تراهن على تأهيل المتعلم بالمهارات والمعارف اللازمة وتنمية قدراته على التحليل والتقويم والتركيب، مضيفا أن د. الداهي ألف العديد من الكتب في هذا المجال، أهمها “القراءة المنهجية” و”دينامية الإقراء” و”القلق البيداغوجي” و”قضايا تدريس النص المسرحي” بالاشتراك مع باحثين آخرين.
في تعقيب محمد الداهي على المداخلات، أكد أنه يوافق الأستاذ يقطين على تسمية الكتابة عن الذات بالسرد الذاتي، لكن بنوع من التعديل، موضحا أنه في مجال الكتابة عن الذات نتحدث عن الأدب الشخصي أو الأدب الخاص الذي يستوعب جملة من الأجناس أو الأنواع الأدبية التي تتمحور حول الذات بصفتها منتجة للخطاب وفاعلة فيه؛ ومن ضمنها: الرسائل واليوميات والسيرة الذاتية والمذكرات والخواطر. بين محمد الداهي أن هناك جملة من المفاهيم عندما تترجم قد تعني ما قصده سعيد يقطين بالسرد الذاتي مع العلم أن لكل مفهوم مجاله وخلفياته. وأعطى محمد الداهي مثالا بـ (Auto-récit ) الذي يفيد الخطاب المسرود (Discours narrativisé) عند جيرار جنيت أو السرد النفسي (Psycho-récit) عند دوريت كوهن وبمثال آخر يتعلق بـ(Autonarration). سعى أرنو شميت استبدال التخييل الذاتي بهذا المفهوم لملاءمته في هتك مناطق الحساسية. لكن المختصين في الكتابة عن الذات اتخذوه بمثابة الجنس الجامع الذي يستوعب كل ما يسترجع فيه الكاتب ماضيه الشخصي أيا كانت الدعامة المعتمدة.
يرجع الفضل في التنظير للكتابة عن الذات وخاصة السيرة الذاتية إلى جورج غوسدورف الذي نتأسف عن عدم ترجمة مؤلفاته إلى اللغة العربية. واستحضر محمد الداهي في هذا السياق ترجمة محمد أيت ميهوب كتاب “الإنسان الرومنطيقي” إلى اللغة العربية ونال على إثره جائزة الشيخ زايد للترجمة عام 2022. ثم أدى فليب لوجون دورا كبيرا في التنظير للسيرة الذاتية من خلال مؤلفاته الكثيرة. وبمرور الوقت ظهر باحثون ونقاد جديد (فليب كاصباريني، أرنو شميت، فليب فوريصت، فانصون كلونا) وسّعوا حقل الكتابة عن الذات للاهتمام بالأنواع البينية الكثيرة التي لمح إليها فليب لوجون وجيرار جنيت؛ وفي مقدمتها التخييل الذاتي.
أما في سياق تفاعله مع مسألة موت الأدب أو الأدب في خطر، كما أثارها د. إدريس الخضراوي في مداخلته، فقد لفت الأستاذ الداهي الانتباه إلى أن الجواب يوجد عند كاتبين فرنسيين، هما “ألكسندر جيفنAlexandre Gifen ” والفيلسوف “جاك رونسيير Jaques Ranciére”، “اللذين يتضح -من خلال أعمالهما- أننا نتحرر من المعتقد أو الدوكسا الاستيطيقي ومن المعتقد الأيديولوجي لندخل إبدالا جديدا أضحى الأدب بمقتضاه “نظاما ساسيا” أو أصبحت “السياسة بفعله أدبا”. وهو ما أعاد الأدب (وخاصة المحكيات الموازية للمضطهدين والتابعين والمعتقلين والمنفيين والمهمشين) إلى الواجهة بصفته سلطة مضادة من جهة لتحرير اللغة من فاشيته، وشأنا حيويا من جهة ثانية للدفاع عن “المواطنة الأدبية” في النقاشات العمومية ولفت الانتباه إلى الفوارق الاجتماعية والسياسات الصغرى (زنا المحارم، المحظورات الاجتماعية، الهويات الجنسية، النوع الاجتماعي، الهشاشة الاجتماعية). ودعا- في الأخير- الباحثين الشباب إلى الاهتمام بالمنطقة البينية التي تزخر بكثير من الأنواع الأدبية التي لم تحلل كثير منها. وهي موجودة في الأدب العربي، ولا تقل أدبية وفنية وجهدا عن نظيرها في الآداب الكونية.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=18987