إعداد وتقديم: ذ.محمد جناي
إن من أوجه الإعجاز الذي تضمنه كتاب الله جل وعلا : ما حواه من جمل قليلة المباني، عظيمة المعاني، يقرأ فيها المسلم الجملة المكونة من كلمتين أو ثلاث كلمات أو أربع، فإذا به يجد تحتها كنوزا من الهدايات العلمية، والإيمانية،والتربوية، والتي جاءت على صورة :(قواعد قرآنية).
وإن من أعظم مزايا هذه القواعد: شمولها، وسعة معانيها، فليست هي خاصة بموضوع محدد كالتوحيد، أو العبادات مثلا، بل هي شاملة لهذا ولغيره من الأحوال التي يتقلب فيها العباد، فثمة قواعد تعالج علاقة العبد بربه تعالى، وقواعد تصحح مقام العبودية، وسير المؤمن إلى الله والدار الآخرة، وقواعد لترشيد السلوك بين الناس، وأخرى لتقويم وتصحيح ما يقع من أخطاء في العلاقة الزوجية، إلى غير ذلك من المجالات .
القاعدة الثانية: ” وَعَس۪يٰٓ أَن تَكْرَهُواْ شَيْـٔاٗ وَهُوَ خَيْرٞ لَّكُمْۖ وَعَس۪يٰٓ أَن تُحِبُّواْ شَيْـٔاٗ وَهُوَ شَرّٞ لَّكُمْۖ”
هذه قاعدة عظيمة لها أثر بالغ في حياة الذين وعوها، واهتدوا بهداها، قاعدة لها صلة بأحد أصول الإيمان العظيمة: ألا وهو ( الإيمان بالقضاء والقدر)، وتلكم القاعدة هي قوله سبحانه وتعالى – في سورة البقرة في سياق الكلام على فرض الجهاد في سبيل الله تعالى -:”وَعَس۪يٰٓ أَن تُحِبُّواْ شَيْـٔاٗ وَهُوَ شَرّٞ لَّكُمْۖ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَۖ “(البقرة :214).
وهذا الخبر المجمل ، فسره قوله تعالى في سورة النساء – في سياق الحديث عن مفارقة النساء- : ” فَعَس۪يٰٓ أَن تَكْرَهُواْ شَيْـٔاٗ وَيَجْعَلَ اَ۬للَّهُ فِيهِ خَيْراٗ كَثِيراٗۖ ” ( النساء: 19).
فقوله : ” خَيْراٗ كَثِيراٗۖ “مفسر وموضح للخير الذي ذكر في آية البقرة، وهي الآية الأولى التي استفتحنا بها هذا الحديث.
ومعنى القاعدة باختصار:
أن الإنسان قد يقع له شيء من الأقدار المؤلمة، التي تكرهها نفسه، فربما جزع، أو أصابه الحزن، وظن أن ذلك المقدور هو الضربة القاضية على آماله وحياته، فإذا بذلك المقدور يصبح خيراً على الإنسان من حيث لا يدري.
والعكس صحيح : كم من إنسان سعى في شيء ظاهره خير، واستمات في سبيل الحصول عليه، وبذل الغالي والنفيس من أجل الوصول إليه، فإذا بالأمر يأتي على عكس مايريد.
إنك إذا تأملت الآيتين الكريمتين الأولى والثانية، وجدت أن الآية الأولى – التي تحدثت عن فرض الجهاد- تتحدث عن ألم بدني وجسمي قد يلحق المجاهدين في سبيل الله – كما في الغالب-، وإذا تأملت الآية الثانية -وهي آية مفارقة النساء- وجدتها تتحدث عن ألم نفسي يلحق أحد الزوجين بسبب فراقه لزوجه!
وإذا تأملت في آية الجهاد ، وجدتها تتحدث عن عبادة من العبادات،وإذا تأملت آية النساء ، وجدتها تتحدث عن علاقات دنيوية.
إذا : فنحن أمام قاعدة تناولت أحوالا شتى: دينية ودنيوية،وبدنية ونفسية،وهي أحوال لا يكاد ينفك عنها أحد في هذه الحياة التي:
جبلت على كدر وأنت تريدها صفوا من الأقذاء والأقذار
وقول الله أبلغ:” لَقَدْ خَلَقْنَا اَ۬لِانسَٰنَ فِے كَبَدٍۖ ” (البلد:4).
إذا تبين هذا فاعلم أن إعمال هذه القاعدة القرآنية في الحياة من أعظم ما يملأ القلب طمأنينة وراحة، ومن أهم أسباب دفع القلق الذي عصف بحياة كثير من الناس، بسبب موقف من المواقف، أو بسبب قدر من الأقدار المؤلمة جرى عليه في يوم من الأيام!
ولو قلبنا قصص القرآن ، وصفحات التاريخ، أو نظرنا في الواقع، لوجدنا من ذلك عبرا وشواهد كثيرة، لعلنا نذكر ببعض منها، عسى أن يكون في ذلك سلوة لكل محزون وعبرة لكل مهموم:
أولا: قصة إلقاء أم موسى لولدها في البحر!
فأنت إذا تأملت وجدت أنه لا أكره لأم موسى من وقوع ابنها بيد آل فرعون ، ومع ذلك ظهرت عواقبه الحميدة، وآثاره الطيبة في مستقبل الأيام، وهذا ما تعبر عنه خاتمة هذه القاعدة :” وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَۖ “.
ثانيا: وتأمل في قصة يوسف عليه الصلاة والسلام تجد أن هذه الآية منطبقة تمام الانطباق على ما جرى له ولأبيه يعقوب عليهما الصلاة والسلام.
ثالثا: وتأمل في قصة الغلام الذي قتله الخضر بأمر الله تعالى، فإنه علل قتله بقوله:”وَأَمَّا اَ۬لْغُلَٰمُ فَكَانَ أَبَوَٰهُ مُومِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَنْ يُّرْهِقَهُمَا طُغْيَٰناٗ وَكُفْراٗۖ (79) فَأَرَدْنَآ أَنْ يُّبَدِّلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراٗ مِّنْهُ زَكَوٰةٗ وَأَقْرَبَ رُحْماٗۖ (80)”[سورة الكهف]، لنقف هنا قليلا ونتساءل:
كم من إنسان لم يقدر الله تعالى أن يرزقه بالولد، فضاق لذلك صدره؟! – وهذا شيء طبعي- لكن الذي لا ينبغي أن يستمر: هو الحزن الدائم ، والشعور بالحرمان الذي يقضي على بقية مشاريعه في الحياة!
وليت من حرم نعمة الولد يتأمل هذه الآية ، ليس ليذهب حزنه فقط، بل ليطمئن قلبه وينشرح صدره، وليته ينظر إلى هذا القدر بمنظار النعمة والرحمة ، وأن الله سبحانه وتعالى قد يكون صرف هذه النعمة رحمة به ! وما يدريه؟ لعله إذا رزق بولد أن يكون هذا الولد سببا في شقاء والديه وتعاستهما، وتنغيص عيشهما! أو تشويه سمعتهما ،” وَأَمَّا اَ۬لْغُلَٰمُ فَكَانَ أَبَوَٰهُ مُومِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَنْ يُّرْهِقَهُمَا طُغْيَٰناٗ وَكُفْراٗۖ (79) فَأَرَدْنَآ أَنْ يُّبَدِّلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراٗ مِّنْهُ زَكَوٰةٗ وَأَقْرَبَ رُحْماٗۖ (80)”[سورة الكهف].
والخلاصة:
على المرء أن يسعى إلى الخير جهده وليس عليه أن تتم المقاصد وأن يتوكل على الله ، ويبذل ما يستطيع من الأسباب المشروعة، فإذا وقع شيء على خلاف ما يحب ، فليتذكر هذه القاعدة القرآنية العظيمة:” وَعَس۪يٰٓ أَن تَكْرَهُواْ شَيْـٔاٗ وَهُوَ خَيْرٞ لَّكُمْۖ وَعَس۪يٰٓ أَن تُحِبُّواْ شَيْـٔاٗ وَهُوَ شَرّٞ لَّكُمْۖ “.
ـــــــــــــــ
هوامش
* من كتاب ” قواعد قرآنية ، 50 قاعدة قرآنية في النفس والحياة “، أعدها الدكتور عمر بن عبد الله المقبل ،إصدارات مركز تدبر للاستشارات التربوية والتعليمية ، الطبعة الثالثة 2012، الرياض ،المملكة العربية السعودية.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=18179