د. خالد زهري ـ كلية أصول الدين، تطوان
لَطالما رفضتُ أن أخوض غمار “الرُّدود” على ما تجود به الساحة الثقافية في الوطن العربي من أعمال، بما في ذلك الرد على مَن جعلوا مِن بحوثي ومؤلفاتي غرَضا لسهامهم، إشفاقا على نفسي من السِّجال الذي لا طائل وراءه، لِما يُفضي إليه في الغالب مِن تضييع للأوقات، على حساب قضايا أخرى أهم وأنفع. فكيف؛ إذاً؛ طوَّعت لي نفسي الرَّدَّ على الفيلسوف المغربي الكبير، الأستاذِ طه عبد الرحمن، وهو مَن هو في البحث الفلسفي، والتحقيقِ الاستدلالي؟!
عوَّدَتْنا الإصداراتُ الفلسفية والفكرية للأستاذ طه عبد الرحمن، أن نسارع إلى اقتنائها، وقضاء الأوقات في قراءتها، هذه القراءة التي قد تتكرر مراتٍ في الكتاب الواحد، لا شك أنها لذلك أهْلٌ، لاحتوائها على أهم عنصريْن من أهم عناصر التصانيف المفيدة، وهما: “الإقناع”، و”الإمتاع”.
ومع كوننا لا نوافقه؛ أحيانا؛ على بعض القضايا الجزئية، المبثوثة في مؤلَّفاته، فإننا لا نملك إلا أن نَعُدَّها من أفضل ما صُنِّفَ في الفكر الإسلامي المعاصر، في القرنين الماضي والحالي، ولم نُفَكِّر الْبَتَّةَ في مراجعته في تلك الجزئيات، حيث كُنَّا – وما زلنا – نرى مِن العَيْبِ المَشِينِ أن يلهينا النظر فيها عن النظر في القضايا الكبرى، التي خاضها هذا الفيلسوفُ المبدعُ، بِعُمْقٍ، ودِقّةٍ، وشجاعةٍ، لم نر لها نظيرا عند غيره.
بَيْدَ أن كتابَهُ الأخيرَ، الموسومَ بــ “ثغور المرابطة”، قلب المقاييسَ كلَّها. فإذا كانت كتبه السابقة تستفز قارئها استفزازا إيجابيا، فإن كتابه هذا يستفز قارئه استفزازا سلبيا، لأن الرجل نزع عنه فيه عباءته الفلسفية، ليخلع عليه خلعة السياسي، وأيُّ سياسيٍّ؟ إنه السياسيُّ، الذي عَدَلَ عن الموقف الوَسَط، ودخل في مشاحناتٍ، وطعونٍ، وتجريحٍ، يتنزه عنه الفيلسوفُ. وهذا ما حَرَّكَ فينا دواعيَ الرَّدِّ الذي طالما أَبَيْنَا الانسياق وراءه. وإن كانتِ الاستجابةُ لهذه الدواعي أتَتْ بعد تردد شديد، وطاعت لي نفسي بصعوبة ومشقة، لتحقيق هذه الاستجابة. وبعد أن طاعت، لم أجد بدا من إيقاف كل مشاغلي والتزاماتي، على كثرتها وتزاحمها، لأن النفس إنِ انقادتْ لك اليوم، فلا يوجَد مَن يضمن انقيادها لك غدا. (أنظر: ثغور المرابطة: مقاربة ائتمانية لصراعات الأمة الحالية، لطه عبد الرحمن، منشورات “مركز مغارب للدراسات في الاجتماع الإنساني”، الرباط، ط. 1، 1440 / 2018، ومن هنا فصاعدا، سنكتفي بالإحالة على صفحة المرجع)
وهكذا، كلَّفْتُ نفسي الارتقاءَ في هذا المرقى الصعب، صَدْعاً بقول الحق، وتذكيرا للأستاذ طه عبد الرحمن، بأن يراجِع مواقفه التي ضمَّنها في كتابه المذكور. وبذلك، يكون هذا “الرد” أقربَ إلى “النصيحة” منه إلى “النقد”. وهو لا يقدح في المقدرة الفلسفية والفكرية للأستاذ المنوَّهِ به، ولا يطعن في شخصه، وسيظل هذا الفيلسوفُ تاجا فوق مفرق رؤوسنا، وطَوْداً شامخا تعتز به أمَّتُنا الإسلامية.
من أهم ما يميز مؤلفات الأستاذ طه عبد الرحمن، أنها مؤلفات استشكالية. فعلاوة على مضمونها المعرفي العميق، ومنهجيتها الدقيقة والصارمة في عرض الأفكار، وتوليدِ النتائج من المقدمات، فإنها تستفز القارئ لطرح المزيد من الأسئلة والإشكالات المعرفية عامة، والفلسفيةِ خاصة. وهذا ما جعلها مثارا خصبا للدراسة أحيانا، وللنقد أحايين أخرى. وبذلك، تكون مؤلفاته قد خُدِمَتْ مِن قِبَلِ المادحين والناقدين مَعاً، بل إن الذين تحاملوا على الأستاذ طه عبد الرحمن بالنقد الشديد، صنعوا ذلك لأمرين على الأقل، كلاهما يَصُبُّ – عند التحقيق – في خدمة مشروعه الفلسفي:
أولهما: أن الرجل يحمل مشروعا فلسفيا قويا ومُثْمِرا، يستحق أن تُضَيَّعَ الأوقاتُ في قراءته، ثم استيعابِه، ثم النظرِ فيه، ثم تحليلِه وتفكيكِه، ثم نَقْدِهِ.
ثانيهما: أن الرجل يكتسب احتراما شديدا من لدن خصومه، ولولا ذلك الاحترام، لما التفتوا إلى ما يكتب، ولا أسَالُوا المداد في مناقشة أفكاره.
بمعنى، أن الاستفزازَ المعرفيَّ والحسَّ النقديَّ، اللذيْن تُحْدِثُهُما مصنفاتُ الأستاذ طه عبد الرحمن لطرح الأسئلة، ونقْدِ المسائل، كان استفزازا إيجابيا، يخدم المشروعَ الفكري الذي يحمله، كما يُسْهِم في تخصيب الساحة الفكرية والفلسفية في الوطن العربي خاصة، والإنساني عامة.
كما كان لها الفضل في إحياء الردود والمناظرات، التي ضعفت في الفترة المعاصرة، وكاد هذا الفن يصير مجهولا لدى المثقف العربي. لكنه – للأسف الشديد – ما فتئ أن نسف مشروعه الفلسفي الائتماني، إذ إن كتابَهُ “ثغور المرابطة”، يُعَدُّ لغما نسف هذا المشروعَ العتيدَ، الذي انشغل بتأسيسه في مسافة زمنية لا تقل عن أربعين سنة.
وسبب ذلك أمران:
أولهما: مواقفه السياسية من بعض الحكومات العربية.
ثانيهما: مضمون خاتمة الكتاب.
وسنخصِّص لكل واحد منهما مبحثين:
مواقفه السياسية من بعض الحكومات العربية
عبَّرتِ المواقفُ السياسيةُ، التي سجَّلها الأستاذ طه عبد الرحمن في “ثغور المرابطة”، عن نزوة سياسية، نزعتْ عنه عباءته الفلسفية، لتلقيه عاريا أعْزَلَ في عَرَاء المزايدات السياسوية.
إن أَوَّلَ ما يلحظه القارئُ لهذا الكتاب، هو تحامله الشديد على المملكة العربية السعودية، وقد سمّاه بــ “النظام التحكيمي السعودي” (ص. 167)، وانتقاده الخفيف– نسبيا -للجمهورية الإسلامية في إيران، وقد سمَّى نظامها بــ “النظام التظلُّمي الإيراني” (ص. 167).
فمما نَعَتَ به النظامَ السعودي:
أ– “التسيُّد”، و”الاحتياز” الذي هو “عبارة عن تسيُّد ذات الحاكم على المحكومين” (ص. 93).
ب – “اختلال الوجهة”، وأنه “يدعي حماية قبلة المسلمين، واقعا في الولاء لأعداء الأمة” (ص. 94).
ج -“الولاء لغير المسلمين”، الذي يلزم منه أنه “ولاء ضد المسلمين” (ص. 98).
ثم وَلَّى وَجْهَهُ شَطْرَ الحليفِ الأولِ والأكبر للمملكة العربية السعودية في منطقة الشرق الأوسط، وهو دولة الإمارات العربية المتحدة، لينعتها بالسِّمَات الآتية:
أ – “الاغترار”.
ب – تَبَنِّي “السياسة الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة العربية”.
ج – تَوَلِّي تنفيذ بعض مخططات هذه السياسة.
د – تبنِّي “المركزية الأمريكية في القوة” (ص. 105).
ومما استنتجَهُ؛ بعد المقارنة بين سمات الدولتين؛ “أن اختلال وجهة النظام الإماراتي أسوأ من اختلال وجهة النظام السعودي، إذ إن اختلال الوجهة في النظام السعودي مَرَدُّهُ إلى موالاته لأعدى أعداء الأمة، في حين أن اختلال الوجهة لدى النظام الإماراتي مرده إلى تَوَلِّيهِ هذه الموالاة” (ص. 105).
أما النظام الإيراني، فمما يؤاخَذُ عليه:
أ – “أن ولاية الفقيه، تسلِّم بأن الولايةَ مقدَّمةٌ على العبادة” (ص. 181).
ب – “ما نجده في تصرُّفات الفقهاء من التنافس على المرجعية، وجلْب الأتباع والمقلِّدين، وجمْع الخمس في أرباح المكاسب، وطلب الاستزادة من الصلاحيات، والاستبداد بالسُّلَطِ كلها” (ص. 184).
ثم يذهب إلى أن سبيل تغيير هاذيْن النظاميْن، تنهض به “الثورة الأخلاقية”، التي يتكفل بها “فقهاء جدد”، و”سياسيون جدد، بحيث يتولى “الفقهاء الجدد” إصلاح النظام السعودي، ويتولى “السياسيون الجدد” إصلاح النظام الإيراني” (ص. 14).
ثم يسمي رائد “الفقه الجديد” بــ “الفقيه التعرُّفي”، وهو الفقيه الائتماني المرابط، الذي يضع حدا لعقبة “الإجبار الديني” في النظام السعودي، و”الذي يَرُدّ الأحكام الشرعية إلى القيم الأخلاقية التي تحتها”.
ويسمي رائد “السياسة الجديدة” بــ “السياسي التقرُّبي”، الذي يتجاوز عقبة “الاحتياز السياسي” في النظام الإيراني، و”الذي يَرُدُّ أعماله التدبيرية إلى ربه، متخلِّقا بوصْف العبد المحتكِم إليه في شؤونه، لا بوصف السيد المتحكِّم في شؤون خلفه” (ص. 268 – 269).
وهذا يجعلنا نتساءل:
لماذا لا يتولى الثورةَ الأخلاقيةَ، في النظام الإيراني “فقهاءُ جُدُدٌ” أيضا؟
هل يعني كلام الأستاذ طه عبد الرحمن، أن أخطاء النظام الإيراني مَرَدُّهُ إلى سياستها، لا إلى مَن سمّاه بــ “الفقيه الولي” (ص. 181)؟
أليس صانعو السياسة في إيران هم الفقهاء؟
أليسوا هُمْ مَن يملكون بناصية السياسة الإيرانيةِ؟
أليست الأخطاء السياسية في إيران فرْعاً عن الاختيارات الفقهية، التي يصنعها التعصُّب الفقهي في غالب الأحيان؟
أليس في ذلك تبرئة لنظام المَلاَلِي من الأخطاء السياسية، التي صنعوها بأيديهم؟
ويذهب بنا الأستاذ طه عبد الرحمن إلى أبعد من ذلك، فيقرِّر أن “نظام المواطنة” (= “النظام الجديد”)، “ليس حقيقة لا تتزلزل، ولا قدَرا لا يرتفع، بل يجوز أن يحل مكانه نظام سياسي، لا يقبل بحدود المكان، واضعا حدودا أخرى تعلوها. ولعل طلائع هذا النظام؛ المجاوز لقيود المكان؛ بدأت تلوح في الأفق” (ص. 169). إنه؛ بهده الدعوى؛ يضرب عرض الحائط بــ “النظام القطري”، الذي يُعَدُّ صمام أمان في النظام الدولي، والذي لا يمكن؛ بأي حال من الأحوال؛ إلغاؤه، وإن نجحنا في تحقيق وحدة عربية، أو إسلامية.
إن دعوات نسف الحدود القطرية، أدت إلى كوارث لا قِبَلَ للعالم الإسلامي بأن يتحمل أكثر مما تحمله من آثارها الوخيمة، ولا أن يعاني أكثر مما عاناه منها. هذه الدعوات، التي تولَّتْ كِبْرَها الأنظمة العربية القومية المتطرفة، في القرن الماضي، ورأينا كوارثها في دعوى إقامة “الخلافة الإسلامية”، التي رفعت شعارها الحركات الوهابية المتطرفة.
من جهة أخرى، ادعى الأستاذ طه عبد الرحمن؛ في “ثغور المرابطة”؛ أن “القضايا الكِيَانِيّة، توجِب تقديم النظر الفلسفي على التحليل السياسي. فواجب الفيلسوف، أن يسابق إلى الاشتغال بها، حتى لا تهلك الأمم الإنسانية بما كسبت أياديها” (ص. 11). لكن، يبدو أنه لم يَفِ بالوعد، حيث كان الرجلُ سياسيا في هذا الكتاب، وخلع عنه عباءته الفلسفية. فمن حقنا؛ إذاً؛ أن نتعامل مع الأفكار والمواقف المضمَّنة فيه تعامل السياسيين، ونسأل أسئلةً مِن قَبِيل:
– ما هي الأسباب النفسية، أو السياسية، أو الإيديولوجية، التي جعلته يتخذ موقفا سياسيا من هذا القبيل؟
– هل تقف وراء هذا الانحياز جهة ما: سياسية، أو حزبية، أو إيديولوجية، إلخ؟
-هل الأمر راجع في ذلك إلى ضغطٍ تقف وراءه سلطة ما، أو حكومة ما؟
-هل الأمر مرتبط بصفقةٍوُظِّفَ فيه الرجلُ، من حيث يدري أو لا يدري؟
– ألمْ يكن حَرِيّاً به أن يناقش السياسة المُتَّبَعَةَ في المغرب، وتعميق النقاش حول عُيوبها ونقائصها؛ وهي كثيرة جدا؛ قبل أن يولي وجهه شطر حكومات أخرى، لمناقشة سياساتها؟
–ألا يمكن أن يُعَدَّ هذا الصنيعُ هروبا من واقع سياسي واجتماعي مُرٍّ أليم يجتازه المغاربة، وفيلسوفنا لم يمتلكِ الشجاعةَ لمناقشة أخطائه؟
-ألا يمكن أن يكون صنيعه هذا إسهاما في إشغال المثقف المغربي عن قضاياه ومشاكله، التي تهم واقعه المغربي، لينشغل بالتفكير في مشاكلَ وأخطاءِ حكوماتِ دولٍ أخرى؟
ومما يجعل طرح هذه الأسئلة، ذاتٍ العمق السياسي، أمرا مشروعا، هو أن انتقاد السياسةِ السعوديةِ، لا يمكن أن ينفك عن استحضار السياسة القَطَرِيّة. فالعداء المستحكم بين الدولتين، يجعلهما يقفان في طَرَفَيْ نقيضٍ، بحيث يصلح أن يكون من مصاديق أحد المستحيلات الذاتية، وهو “استحالة ُعُرُوِّ المَحَلِّ عن الشيء ونقيضه”.
وهذا يستفزنا لطرح أسئلة أخرى:
– لماذا غابت مناقشة سياسة الحكومة القطرية من موضوعات الكتاب؟
ــ هل يمكن أن يكون لدولة قطر دَخْلٌ – من قريب أو من بعيد – في استدراج الرجل، لتوظيف مهارته التأليفية والتنظيرية في تصنيف الكتاب المذكور؟
– وإن لم يكن للحكومة القطرية دخل في ذلك، فهل يمكن أن يكون الكتابُان حيازا لجهة مسكوتٍ عنها فيه، وهي الحكومة المذكورة، إعجابا بمواقفها الدولية، أو اطمئنانا إلى نهْجها السياسي؟
– هل تصح دعواه بأن المقصود من الصراع السعودي الإيراني، “هو التنازع على زعامة العالم الإسلامي، بين نظامين إسلاميين، هما: النظام السعودي، والنظام الإيراني” (ص. 14)؟
– هل يَعْزُبُ عنه وجود طرف ثالث في التنازع على هذه الزعامة، لا يَسَعُ أحداً تجاهلُهُ، ولا يخفى على كل مراقِب أمرُهُ، وهو النظام التركي، الحليف السياسي والاستراتيجي لدولة قطر في الشرق الأوسط؟
ــ لماذا غابت دولةُ تركيا غيابَ دولةِ قطر من المقاربات السياسية في كتاب “ثغور المرابطة”؟
إن هذه التساؤلات، لا تعني البَتَّةَ، أنني أتخندق في صف النظامين السعودي والإماراتي، كما لا يعني أنني أناصب العداء لدولة قطر ودولة تركيا، إذ الحكومات في العالم الإسلامي، تتشابه في أخطائها، ومفاسدها جميعا أكثر من محاسنها. كما لا تعني أنني أشكك في إخلاص الأستاذ طه عبد الرحمن، ولا في ولائه لأمته، ولا في وَطَنِيّته. ولكنها أسئلة – كما قلتُ – تراود كل قارئ للكتاب، كما أن لها مسوِّغاتها الكثيرة، نكتفي بذكر ثلاثة منها:
المسوِّغ الأول: “مَن أَلَّفَ فقد اسْتَهْدَفَ” كما قال الجاحظ. وإخال قُرّاءَ كتبه، ممن تستفزهم هذه الأسئلة؛ وغيرها كثير؛ يتطلعون إلى أن يجيب عنها، ويرفعَ اللَّبْس والحيرة، اللذين قد يعتريان القارئ العربي عامة، والمغربي خاصة.
المسوِّغ الثاني: أنه ما فتئ يفصل بين خطاب الجمهور، وخطاب الباحثين والعلماء، وأنّ لكل خطاب مقامه ومجاله، وبعبارته: “والصواب أن يقال بأن للجمهور خطابه، وللبحث العلمي خطابه، وشتان بين الخطابين” (حوارات من أجل المستقبل لطه عبد الرحمن، سلسلة “كتاب الجيب: الكتاب 13″، منشورات جريدة الزمن، الرباط – مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، أبريل 2000، ص. 51).
المسوِّغ الثالث: أن “الفيلسوف الائتماني!”، أي: الذي ينحو منحى أخلاقيا في فلسفته، يختار الموقف الوسط، فيستنكف بنفسه أن يميل يمينا أو يسارا، يقول: “إن الفيلسوف الحقيقي أخلاقي بطبعه، فلا يتحزب أو يتقلب، ولا يتيامن أو يتياسر، ولا يساوم أو يناور، ولا يتأمَّر أو يتآمر” (المرجع نفسه، ص. 35).
وعليه، فقد كان كتاب “ثغور المرابطة” صادما، ومحيِّرا في الآن نفسه، إذ جعلنا نحتار في تصنيف الأستاذ طه عبد الرحمن: هل هو ذلك الفيلسوف المغربي المبدع، الذي يؤسِّس فلسفةً لأمته، تفيدها في المثاقفة، والمرابطة، والمقاومة، والائتمان على ميراثها الديني والمعرفي؟ أو هو ذلك السياسوي، الذي اسْتُدْرِجَ، ليكون جزءا لا يتجزأ من الصراعات السياسية بين أطراف عربية استحكم العداءُ بينها؟ أو هو أمر آخَرُ غيْرُ هذا لا نعرفه؟
مضمون خاتمة الكتاب
لا يمكن؛ بأي حال من الأحوال؛ أن نعُدّ خاتمة كتاب “ثغور المرابطة”، والتي وَسَمَها بــ “الائتمان والإيمان” (ثغور المرابطة، ص. 235 – 246)، خاتمة علمية، تَتَغَيَّى الاستنتاج والاستخلاص، بقدر ما هي ملحمة للمصارعة، والحرب اللسانية، وانتهاك الحُرَم، وتصفية الحسابات. وقد كان قَصْدُ الأستاذ طه عبد الرحمن جَلِيّاً فيها، وهو إثبات مقصديْن:
المقصد الأول: الاستعلاء، والتطاول، والإعجاب الشديد، بكونه فارسَ ميدان الفلسفة في العالم العربي، قديما وحديثا، بل هو واحِدُها ووحِيدُها. ومن تصريحاته المُوغِلة في ادعاء نسبةِ امتلاكِ الحقيقةِ الفلسفيةِ لِشَخْصِهِ، وأنه لم يسبقه إلى ذلك أحدٌ من المتقدمين، ولا المتأخرين، دَعْوَاهُ أنّ مِنْ قُصُودِهِ في “جهادِهِ المنطقي!”، أنه مَهَّدَ “لبناء فلسفة إسلامية تتوخَّى، في تحديد مقاصدها وقِيَمها، التحرر من التقليد الفلسفي، الذي وقع فيه المتقدمون والمتأخرون، ولا سبيل إلى هذا التحرر، بغير امتلاك الصناعة المنطقية” (ص. 237).
المقصد الثاني: الطعن في الكفاءة العلمية، والقدرة على التفلسف، في حَقِّ كُلِّ مَن يخالف فكره، أو ينتقد جزئية من جزئيات مشروعه “الأخلاقي!”، وكيْل التهم الجاهزة إليهم، فهم المرتزقة، وهم المرضى بعُقَد نفسية، إلخ. فــ “بعضهم لم ينتج ما أنتج، على تهلهله، إلا تزلُّفا لجهات نافذة، وارتزاقا لأخرى راشية” (ص. 235). وخصومه “الطاعنون له!”، يعانون من ثلاث عقد:
الأولى:”عقدة الدِّين، بأشد مما يعانيها أولياؤهم من الأساتذة الغربيين” (ص. 235 – 236).
الثانية: “عقدة المنطق” (ص. 236 – 237).
الثالثة: “عقدة النقص” بسبب عجزهم عن “الإحاطة بالإشكالات الفلسفية الأساسية، التي خاض فيها كبار فلاسفة الغرب من المتقدمين والمتأخرين”، وكذا عدم “تحصيل المَلَكَة الاستشكالية، التي بها وحدها يستحق المشتغل بالفلسفة رتبة الفيلسوف” (ص. 240)، كما أنهم “لا يعرفون إلا وجها واحدا من الاشتغال بالفلسفة، ينزع عنهم القدرة على التفلسف، وهو “التقليد”، فبقدر ما يقلِّدون فلاسفة الغرب، يحسبون أنفسهم متفلسفة، وهيهات أن يكون لهم ما يحسبون!” (ص. 241).
وفرَّع عن ذلك نعْتَهم بعُقْدَتَيْن:
العقدة الأولى: عقدةُ نقصِ إتقانِ اللغاتِ التي تُعَدّ وعاءً للفلسفة، بما يوحي أنه يُتْقِنُها، وهي: اليونانية، واللاتينية، والفارسية، والألمانية، والإنجليزية، والفرنسية (ص. 242). لكن، إذا كنتُ متأكدا انه يتقن بعضها، فإنني متأكد أيضا أنه لا يتقنها جميعا، وهذا البعض الذي يتقنه، منه ما يُعَدُّ لغة للتواصل والتأليف، ومنه ما لا يتعامل معه إلا باعتباره لغةً للبحث العلمي، أي أنه لا يتقن أكثر من العربية والفرنسية والإنجليزية.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار، أن مؤلَّفاته مكتوبة باللغة العربية، ولم يؤلِّف بالفرنسية إلا كتابا واحدا، وهو الذي كان موضوعا لأطروحة الدكتوراه في فرنسا، فليس لدينا دليل على معرفته باللغة الإنجليزية، إلا المصادر والمراجع المبثوثة بهذه اللغة في إحالاتِ، وفي لائحةِ المصادرِ والمراجعِ، التي يعتمدها في تأليف كتبه. بمعنى، أننا لا نملك دليلا على أنه يتقن هذه اللغة. فَلِمَ – إذاً – يَنْعَتُ غيره بعقدة النقص اللغوي؟!
ومن جهة أخرى، إدراجه للغة الفارسية– والتي أستطيع أن أزعم أنه لا يتقنها ولا يعرفها – ضمن لغات الفلسفة، فيه نظر، إذ إنني أتساءل: ما هو الأساس النظري أو التاريخي، الذي استند إليه في عَدِّ اللغة الفارسية من لغات الفلسفة؟
الجواب، أنه لا يستند إلى أي أساسٍ عِلْمِيّ، فكبار فلاسفة الفُرْسِ المسلمين، عبَّروا عن فلسفتهم باللغة العربية، بمعنى أنهم يعدون لغة القرآن الكريم وِعاءً لنقل نظرياتهم الفلسفية إلى الناس، وطريقةً وحيدة لممارسة الفلسفة، سواء منهم أرباب الفلسفة المشائية، كالشيخ الرئيس ابنِ سينا، أو فلاسفة الإشراق، كالسُّهْرَوردي المقتول. ناهيك عن فيلسوف الفرس صدر المتألهين الشيرازي، الملقَّب بــ “المُلاّ صَدْرَا”، والذي ينعته أبناء جنسه بأنه أول مَن نجح في الجمْع بين فلسفة المشائين وفلسفة الإشراقيين، أَلَّفَ كل مصنَّفاته الفلسفية، كــ “الأسفار الأربعة”، و”رسالة في حركة الجوهر”، و”شواهد الربوبية”، و”المبدأ والمعاد”، إلخ، باللغة العربية، ولم يؤلِّف إلا كتابا واحدا باللغة الفارسية، وهو كتاب “الأصول الثلاثة”، وهو ليس كتابا فلسفيا، لأنه موجَّهٌ إلى الفقهاء، الذين بدَّعوه، وفسقوه، وكفروه، لانفراده باختيارات دينية لم يقبلوها، ولاشتغاله بالفلسفة، وكأنه يقول لهم: “استعملتُ؛ في التعامل معكم؛ اللغةَ الفارسية، لتَفْهَمُوا مقاصدَ كلامي، ما دمتم لا تفهمون فلسفتي، التي جعلتُ من اللغة العربية وعاءً لها”.
وبكلمة: إن الأستاذ طه عبد الرحمن، ادَّعَى للغةِ الفارسيةِ، ما لم يَدَّعِهِ لها أهْلُها الناطقون بها”.
وكَوْنِي وَسَمْتُ اللغةَ الفارسية، بأنها ليست وعاءً للفلسفة، ليس طعنا فيها، ولا نيْلا من مقدراتها المعرفية، ولا نقصا من الناطقين بها، فهي لغة من أجمل اللغة، ولسان مِن أرقى الألسن، وكُتِبَ بها تراث ديني، وأدبي، وشعري، وعرفاني، قَلَّ نظيره في التُّرَاثَاتِ الأخرى.
وأَوَدُّ أن أُفِيدَ الأستاذَ طه عبد الرحمن، بأن الفلسفة، سواء منها السِّينَوٍيّة، أو الإشراقية، أو الصَّدْرَائِيّة، تُدرَّس في الحوزات العلمية، في كل أنحاء إيران، باللغة العربية. وهذه من الحسنات التي تُحْسَب للمنهج التعليمي الإيراني.
العقدة الثانية: عقدة عَدَمِ التحصيل الفلسفي من الجامعات الغربية، وقد كان لِزاما عليه؛ بحُكْمِ موقعه الأكاديمي؛ أن ينتهج نهج الفن، الذي طالما نَظَّرَ له، وجعله موضوعا لكتابه “في أصول الحوار وتجديد علم الكلام”، فيمارس الحوار مع “الطاعنين فيه!”، مستعملا المصطلحاتِ المتداوَلةَ في هذا الفن، من قَبِيل: “الحوار”، و”المناظرة”، و”الرَّدّ”، و”النقد”، و”النقض”، إلخ. بَيْدَ أنه – للأسف الشديد – استعمل عبارات، أقل ما يقال فيها: “إنها صادمة جدا!”، وننقل هذه الفقرة؛ على طولها؛ والتي تَسَلَّطَ فيها بلِسانه الحَدِيدِ على “الطاعنين!”، إثباتا للعقدةِ المذكورةِ، وإمعانا في “تجهيلهم!”. ومن عجائب أموره، أنه عَدَّ طعْنَهُ للمخالِفين دليلا، وهو أمر غير مقبول من رجل خاض غمار الاستدلال، يقول: “والدليل الثاني، أن الطاعنين، لم يترددوا على الجامعات العالمية، تحصيلا لرتبة أكاديمية فيها، تؤهلهم لما يدَّعونه، ولا عرفوا كيف يمارس فلاسفتُها وأساتذتُها عملَهم الفلسفي، توليدا وترتيبا وتثويرا، ولا كيف يتفانون فيه، ويتماهون، حتى تحسبهم لا هُوِيَّةَ لهم إلا الهُوِيَّة الفلسفية. وإنما قضوا سنوات حياتهم الدراسية، يتلقون تعليمهم في جامعات عربية تقليدية، على ما هي عليه من التردي، وحتى على فرض وجود فلاسفة أكفاء بهذه الجامعات، فإن ذلك لا يغنيهم عن الحاجة إلى التردد على الجامعات العالمية، التي تخترع المفاهيم والقضايا الفلسفية اختراعا. فما الظن إذا كانت الجامعات العربية، ليس بها فلاسفة مبدعون، وإنما أساتذة لتاريخ الفلسفة مقلدين! فهؤلاء الطاعنون، لم يتلقوا تعليمهم الفلسفي، إلا على هؤلاء الأساتذة المؤرخين، فصاروا على نهجهم التقليدي في ادعاء الاختصاص في الفلسفة الإسلامية، أو الفلسفة العربية المعاصرة” (ص. 243).
ولا يخفى ما في هذا الكلام الجارح من إسفاف، فدعوى أن الوطنَ العربيَّ عقيمٌ، لا تُنْتِجُ جامعاتُهُ فلسفةً، ولا تخرِّجُ فلاسفةً، وإن تخرَّج منها باحثٌ في الفلسفة، فما هو إلا مقلِّد، تَجَنٍّ كبيرٌ وغيرُ مقبول، وظلم عظيم لجامعاتنا العربية، وهو صَنِيعٌ أَقَلُّ ما يقال فيه: إنه إنكار للجميل!
فلا شك أن الأستاذ طه عبد الرحمن، قد دَرَسَ في الجامعة المغربية، وهي من أهم وأرقى الجامعات العربية، في سنوات الإجازة، قبل أن تتفضل عليه هذه الجامعة “المسكينة!”، بتأهيله للسفر إلى فرنسا، لاستكمال دراسته الجامعية في “الجامعات العالمية!”، ولو كانت ضعيفةً، ومنعوتةً بما وَصَفَها به حقيقةً، لرفضته تلك “الجامعات العالمية!”، ولَمَا اعترفتْ بشهادته الجامعية “العربية!”، ولَمَا رَحَّبَتْ به للدراسة في أحضانها.
علاوة على ذلك، إن دعوى الأستاذ طه عبد الرحمن، أن الجامعة العربية عقيمة فلسفيا، تستلزم أنه كان فاشلا في رسالته الجامعية. فهو الذي درَّس في هذه الجامعة “الرديئة!” سنين طويلة، وهو الذي تخرَّج على يده مئات الطلبة الجامعيين، مما يستفونا للتساؤل: ألم يكن حَرِيّا ًبه أن يستدرك نواقص سابقيه ومعاصريه، مِن مدرِّسي الفلسفة، فيزرع فيها بذور الإبداع الفلسفي؟!
ويقاس أيضا على ما قلناه، دعواه أن الجامعة العربية، لم تُنْتِجْ لنا أيَّ فيلسوفٍ مبدعٍ. إذ إنها تستلزم، أنه فشل في أن يصنع لنا عقلا فلسفيا إبداعيا واحدا!
أليس هذا إيذانا منه، أنه فشل في أن يؤسس مدرسة تحمل فكره، وتبشِّر بفلسفته، وينتمي إليها تلاميذُ يذودون عنها؟أم أنه لا يرغب – أصلا – في أن تكون له مدرسة؟ وزاهد في أن يكون له تلاميذ ينافحون عن فلسفته، ويؤسسون على نظرياته أفكارا وأحكاما جديدة؟
إن كان الجواب عن هذه الأسئلة بالإيجاب، فسيكون – قطعا – حوابا مُحْزِنا جدا، لأسباب عديد، منها:
– أنه إيذان بأن مشروعه الفلسفي، سيموت قبْل مَوْتِهِ.
– أنه إنكار لجميلِ كثيرٍ من الباحثين في الوطن العربي، الذين حملوا مشروعه الفلسفي، ودافعوا عنه، وعانوا في سبيل ذلك الشيءَ الكثير، أَمَلاً في أن يجعلوه بديلا عن كثير من الأفكار الغَرِيبَة عن ثقافة وذوق المثقف العربي. وحَرِيٌّ بنا في هذا المقام، أن نذكِّره بالموضوع، الذي جعله عنوانا لخاتمة كتابه “دين الحياء”، والذي بسببه وَسَمَها بأنها “خاتمة لا كالخواتم”، وهذه صيغته:”مِن شُعَبِ الحياء الإقرارُ لذوي الفضل بأفضالهم” (دين الحياء: من الفقه الائتماري إلى الفقه الائتماني، لطه عبد الرحمن، المؤسسة العربية للفكر والإبداع (إبداع)، بيروت، ط. 1، 2017، ج. 3، ص. 133 – 177).
هذا، وإن الأستاذ طه عبد الرحمن، لم يقف عند حد تجريح المخالِفين له، والطعن فيهم، وإفراغ الجامعات العربية من كل منقبة، ليجعلها حبلى بكل مثلبة، بل اسْتَفْحَل حُكْمُهُ الإقصائيُّ، والبعيدُ عن الإنصاف، إلى مستوىً مِن التعالي، لا يُتَصَوَّرُ مستوىً أعلى منه، وذلك حين ادعى، بإصرارٍ ويقينٍ وإيمانٍ، أنه مَنْ امتلك قدرةَ الدخولِ على الفلسفة من باب “الإيمان المطلق”، بينما دخل غيره عليها من باب “الإنكار المرسل” (المرجع نفسه، ص. 236)، وتقيَّد بالمنهجية المنطقية، وغيره لا يمتلك “الصناعة المنطقية” (المرجع نفسه، ص. 237)، وتحقق بــ “التزكية الأخلاقية”، التي وسعت مدارك عقله، وغيره “لا أمل في معقولية أحكامه، بل المعقولية توجد في أضداد أحكامه” (المرجع نفسه، ص. 238)، إلخ.
وهو؛ فوق هذا كله؛ واحِدُ الفلسفة في الوطن العربي ووَحِيدها كما سبقت الإشارة إلى ذلك. ويا حَبَّذا لو أنه استحضر؛ في هذا المقام؛ آفتيْن من آفات “الفقه الائتماري” التي نظَّر لها أيَّما تنظير، وهما: “حب الذات”، و”الإعجاب بصفات الذات” (المرجع نفسه، ج. 2، ص. 308 – 310). [“الفقه الائتماري”، في مقابل “الفقه الائتماني”، وهما مصطلحان وضعهما الأستاذ طه عبد الرحمن، وتكلم على معناهما بتفصيل في الفصلين الأول والثاني (ص. 33 – 87)، من الجزء الأول، من “دين الحياء”، وهو الجزءُ الموسومُ بــ “أصول النظر الائتماني”. وجماع ما قاله فيهما، أن “الفقه الائتماري”، هو “الذي ينظر في الأوامر الإلهية، تاركا للمكلَّف أمرَ العمل بها”، أما “الفقه الائتماني”، فهو الذي “ينظر في القيم الأخلاقية، التي في ضمن هذه الأوامر، جالبا المكلَّف إلى التخلق بها، تحت توجيهه، بحُكْم أن المكلَّف لا يخلِّق نفسَهُ بنفسه” (المرجع نفسه، ج. 1، ص. 87)]
وهنا يستفزنا سؤال آخَر، وهو:
ألم يكن قَمِيناً بالأستاذ طه عبد الرحمن، عوض هذا الادعاء العريض، أن يُرْسِلَ رسالةَ طمأنةٍ إلى تلاميذه، أو بشارةً بأنه يَعْقِدُ الأمل عليهم، في أن يحملوا مشعل الإبداع الفلسفي في الجامعات العربية؟ أم أن حَظَّهُمْ؛ هم الآخرون؛ أن يُتَّهَمُوا مِن قِبَلِهِ بالعُقَدِ المذكور، والرداءة في التحصيل، والتقليد في التفلسف؟!
ولا غَرْوَ أن يتسع هذا الإنكار للجميل، حين يدَّعي بأنه لا ينتمي إلى أي وعاء ديني أو سياسي، وبعبارته: “ولم يَحْصُلْ قَطُّ أن طلبتُ الانتظامَ في هيئة مخصوصة، ولا دعوتُ إلى أي انتظام تكتُّلي، دينيا كان أو سياسيا” (ثغور المرابطة، ص. 238). فإن سلَّمنا أنه ليس له انتماء سياسي، وهو أمر لا مِراءَ فيه، ونصدِّقُهُ فيه، فكيف نسلِّم له بأنه لا ينتمي لأي وعاء ديني، وهو يصرِّح بأن تزكيته الروحية كانت على يد شيخٍ مُرَبٍّ، وبعبارته: “وقد حَصَّلْتُ من هذه التزكية، ما شاء الله أن أحصِّل، مَدِينًا فيها لأستاذي في الممارسة الأخلاقية، فلن أُنْكِرَ أبدا أفضاله عليَّ” (المرجع نفسه، ص. 238). أليس هذا تصريحا منه بالانتماء الروحي، وهو – لا شك – انتماء ديني؟! بَيْدَ أن عبارته: “لن أُنْكِر أبدا أفضاله علي”، تدفعنا لنتسائل:أليس مِن الاعتراف بجميلِ أستاذِهِ، الذي أفاده في تحصيل تزكيته الروحية، أن يَذْكُرَ اسمَهُ، فيَرْفَعَ بذلك شأنَهُ، ويُخَلِّدَ في الصالحين ذِكْرَهُ؟! [ذَكَرَ اسْمَ أستاذِهِ في التربية الروحية، وهو الشيخ حمزة بن العباس، الشيخُ السابق للطريقة القادرية البودشيشية، رحمه الله تعالى في كتابيْهِ: أ –”العمل الديني وتجديد العقل” (مطبعة بابل، الرباط، 1989، ص. 5، 17 – 28)، وذلك في الإهداء، والمقدمة التي حكى فيها تجربته الروحية مع شيخه المذكور؛ ب – “دين الحياء”(ج. 3، ص. 162، 177)]
خاتمة
مِن أهم ما يمكن استنتاجه، من خلال قراءتنا لكتاب “ثغور المرابطة”، ما يأتي:
ادعى الأستاذ طه عبد الرحمن، في مقدمة “ثغور المرابطة”، أن مواقفه من التحديات التي تواجه الأمة، تتأسس على نظريته الفلسفية الائتمانية، إذ قال: “أما تفلسفي، في مثل هذه التحديات الكِيَانِيّة، التي تواجه الأمتيْن: العربية والإسلامية، فيتأسس على ما أطلقتُ عليه؛ في سابق مؤلَّفاتي؛ اسمَ “النظرية الائتمانية (ص. 11 – 12).
بَيْدَ أنه خالف ما وَعَدَ به، حيث نَحَى؛ في موقفه من سياسة بعض الحكومات العربية؛ منحىً مخالفا للإجماع المغربي في السياسة الدولية، التي تنبني على الحِياد، وعلى الأخذ بعين الاعتبار المصالح الكبرى للأمة، ومراعاة التوازنات الدولية، وعدم التسرع في اتخاذ المواقف والقرارات السياسية.
أسس الأستاذ طه عبد الرحمن فلسفته الائتمانية على أسسٍ، نذكر منها ما يأتي:
أ – التزكية الأخلاقية، وبعبارته: “تأسيس نظريتي الإسلامية على تزكيتي الأخلاقية” (المرجع نفسه، ص. 238).
ب – القدوة الحسنة، أو ما يسميه بــ “سلوك القدوة والتحقق بالصدق” (سؤال الأخلاق، ص. 99 – 104.)، ويقرٍّر أن: “القدوةَ هي –اليوم – أشدُّ مما كانت عليه مِن قَبْلُ” (سؤال الأخلاق، ص. 194)
ج – المحبة، يقول: “إذ أصل الفلسفة، بحسب تعريفها، إنما هو الحب، ودخولي عليها كان من باب “الإيمان المطلق”، بينما دخلوا، هُمْ [أي: المخالِفون له، والطاعنون في مشاريعه الفلسفية]، عليها من باب “الإنكار المُرْسَل” . . . ” (ص. 236).
لكن – للأسف الشديد – خَلَتْ خاتمةُ الكتاب خلوا تاما من هذه القيم، فحَلَّتْ “تزكيةُ النفس” مَحَلَّ “التزكية الأخلاقية”، و”التمرُّدُ المستعلي” مَحَلَّ “القدوةِ الحسنة”، و”الضغينةُ” و”الحقدُ” مَحَلَّ “الحب”.
فتكون؛ بذلك؛ مضامينُ الكتابِ في مَعْزِلٍ عن أصول نظريته الائتمانية. ويلزم من هذا، أنه لم يَفِ بالوعد الذي قطعه على نفسه في مقدمته، وهو ادِّعاؤه: “أنّ كتابَ ثغور المرابطة، عملٌ توجيهيٌّ، بقدر ما هو عمل توصيفي. ويجب أن يكون عملا توجيهيا، وإلا حاد عن مقصده، وفَقَدَ فائدتَه، إذ إنه بُنِيَ على أصول النظرية الائتمانية، وقد تبيَّن أن النظرية الائتمانية نظرية أخلاقية” (ص. 15)
بنى الأستاذ طه عبد الرحمن فلسفةً، ما فتئتْ تتطور وتتسامى، إلى أن استوت على سُوقِها، ونضجت مع “الفلسفة الائتمانية”، التي وضع أسسها في كتبه الأخيرة، خاصة: “روح الدين: من ضيق العلمانية إلى الفلسفة الائتمانية”، و”بؤس الدهرانية: النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين”، و”دين الحياء: من الفقه الائتماري إلى الفقه الائتماني”.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=15678
حسن المباركيمنذ 3 سنوات
يا حسرة على المفكر طه عبد الرحمن الذي اصبح يتحدث كأنه ينتمي إلى جماعة إسلامية، خاصة أنه كان يدافع عن التصوف،، ويا حسرة على هذا الكتاب الذي خدم هذه الجماعات الإسلامية وقدم لها هدية على حساب مؤلفه الذي كشف عن وجه آخر من خطابه الأصولي