نورالدين الحاتمي
أثار موضوع استدعاء “الداعية” و “الشيخ” محمد حسين يعقوب للإدلاء بشهادته في واحدة من قضايا “الإرهاب” نقاشا واسعا واهتماما كبيرا من قبل عدد من المهتمين و المراقبين، وهو الاهتمام الذي يعود إلى شهرة هذا الأخير و”نجوميته” التي حظي بها من خلال احتفاء وسائل الاعلام و احتفالها به.
و لولا أن الناس انخرطوا في موضوعه ما فعلنا، و لولا أن الناس شغلهم هذا الأمر ما خضنا فيه. غير أننا نقول أن الموقف الذي وضع فيه الرجل لا يرضاه حر لأحد من الأبرياء، و إنه ليؤلمنا أن نرى أحدا من الأبرياء في مثله، و ليس يليق بأخلاق و قيم اهل مصر أن يُذل رجل مسن شاب شعر رأسه ولحيته و لم يعد يقوى على الوقوف.
هذا من جهة أولى ومن جهة ثانية، فقد لفت انتباهنا في الموضوع عدد من القضايا الهامة، التي تستحق التوقف عندها، منها: ذكر اسم هذا الرجل، و غيره ممن على منهجه و مذهبه، على لسان متهمين منتسبين إلى جماعة “داعش”، ومنها طلبه من القاضي أن لا يسمح للصحافة أن تصور اللقاء معللا طلبه بقوله: أن الصحافة كثيرا ما أوذي منها، و منها قوله عن نفسه أنه ليس عالما ، وإنما هو مجرد داعية يدعو العوام إلى الله بل قال عن نفسه أنه جاهل، و أنه لم يتخصص في أي فرع من فروع العلوم الشرعية، كما لفت انتباهنا قوله أنه لا يعلم ما إن كانت لرموز جماعته ك” محمد بن صالح بن عثيمين” و”عبد العزيز بن باز” مخالفات ل”شيخ الاسلام ابن تيمية” و غيرها من القضايا.
إن أول ما يجب الوقوف عنده هنا، هو التساؤل حول ما إذا كان هؤلاء المتهمون قد ذكروا أولئك الأشخاص حقا و صدقا. إن ورود أسماء هؤلاء يبعث على الريبة و الشك، و بالتالي، فأن يذكر هؤلاء المتهمون أولئك “الشيوخ” فهذا الأمر إما انه غير صحيح بالمرة ، و إنما هو محاولة للإيقاع بهم و النيل منهم، لأن الدور اليوم سيأتي عليهم و سينالهم من الأذى ما نال الذين من قبلهم، تماما كما كان يتنبأ لهم بعض “شيوخ” السلفية الجهادية، وإما أن هؤلاء قد ذكروهم فعلا وإنما كان غرضهم توريطهم، و الزج بهم في ملفات تكتسي خطورة شديدة و أهمية كبرى على الصعيد الأمني، وإما أنهم ذكروا أسماءهم ظنا منهم أن تلك الأسماء “المعتدلة” قد تخفف عنهم العقوبة و لكن هذا بعيد، لأن التورط في الجرائم ذات الطابع الإرهابي تورط فيما لا تخفيف فيه.
إنه من غير الوارد إطلاقا أن يكون هؤلاء ذوي وزن عند العناصر المنتسبة إلى “السلفية الجهادية” و من غير الوارد أيضا، أن يكونوا محل ثقة و يتمتعون بمصداقية تجعل هؤلاء “الجهاديين” يتأثرون بهم و بفتاواهم و دروسهم.
صحيح أن لهم مريدين و أنصارا على امتداد العالم الإسلامي، و صحيح كذلك، أن لهم جمهورا واسعا من المسلمين، و لكن صحيح أيضا أن هؤلاء الذين يعتبرون من المعجبين بهم، بمجرد تبنيهم للرؤية “السلفية الجهادية” يقلعون عن الإنصات إليهم و التلقي عنهم بالنسبة للتيار “السلفي الجهادي” فإن الشيوخ عنده، فقط أولئك الذين يهاجرون إلى البؤر الجهادية و يطلبون الموت مظانه كما يحلو لهم القول، و يعبرون عن ذلك بقول الواحد منهم: “إذا كنت تريد أن تكون إمامي فكن أمامي”. و بما أن محمد حسين يعقوب ليس في الجبهة و لا يحمل السلاح، و إنما هو قاعد في بيته بين أفراد عائلته و محبيه، فإنه ليس من شيوخ “التيار الجهادي” فضلا عن جماعة “داعش”.
إن من المقطوع به أن محمد حسين يعقوب ـ و الأسماء الأخرى التي وردت في المحاضر ـ لا علاقة لها “بالتيار الجهادي”. والذين يعتمدون في التدليل على وجود هذه العلاقة على كلمات أثنى فيها الرجل على أسماء جهادية مشهورة فهذه الكلمات لا تفيدهم في شيء لان الرجل كان يقولها فقط من أجل أن تتسع قاعدته الجماهيرية. إن الشيء الوحيد الذي يجمع بينهم ، اي بين محمد حسين يعقوب و أصحابه و بين “التيار السلفي الجهادي” هو التراث الذي يستقون منه جميعهم، أفكارهم.
و أما بالنسبة للطلب الذي التمس به من الهيئة عدم التصوير و العرض على الجمهور، فإن المسألة هنا واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار. إنه يطلب منهم بصريح العبارة أن يبقى ما يقوله ـ أو ما سيقوله ـ طي الكتمان، أي سرا، لأنه قد يدلي بما قد يجر عليه نقمة الشارع و يفقده الأتباع و المريدين، و الهيئة تعرف ذلك تماما و تدركه، و لذلك أصرت على أن يكون كلامه موثقا و يتم عرضه على الجماهير، و هذه الدعوى تجد سندها في الأسئلة التي كان القاضي يطرحها على “الشيخ” كتخصصه و مستوى معرفته بالعلوم الشرعية و مدى اطلاعه على مواطن الاختلاف بين بعض أعلام السلفية، و مضمون الفكر السلفي و شروط المجتهد وسؤاله إياه عن بعض التفاصيل الفقهية التي من الوارد جدا أن لا يعرفها و غيرها من الأسئلة التي كشفت تواضع الرجل من الناحية العلمية و الفكرية، و بينت سطحيته و هشاشته على مستوى التكوين و الوعي بالإيديولوجيا التي طالما فاخر هو نظراؤه بالانتساب إليها. و إذا كان هناك من ذهب إلى ان الرجل كان ذكيا في أجوبته و ردوده فإن الواقع يثبت العكس، أي أن الرجل كان في وضع لا يحسد عليه.
إن المفارقة هنا، تكمن في أن هؤلاء الذين كانوا ينبرون للحديث عن الدين، و تقمص شخصيات الدعاة الكبار، كانوا يقولون و يكررون القول: ان من كان له أتباع و جمهور يقلده أو يقتدي به، فإنه لا يصح له أن يتعامل بالتقية، ولا يجوز في حقه أن يداري خوفا على نفسه و حرصا عليها، فمصلحة الدين مقدمة على مصلحة النفس. وقد كانوا يستنبطون هذا الرأي و هذا الموقف من محنة “الإمام” أحمد بن حنبل و قصة ثباته و صلابته في مواجهته لفتنة خلق القرآن. و الحق ان هؤلاء صدعوا رؤوسنا بحديثهم و ثنائهم على عالمهم و إمامهم “إمام أهل السنة” و صموده في تلك الفتنة و إنهم لفرط حديثهم عن تلك القصة خيل إلى الناس أن هذا الإمام ليس له في تاريخه كله إلا ذلك الموقف. أقول إنه يبالغون في الحديث عن تلك القضايا، و يحاكمون الناس على ضوئها حتى إذا وقعوا هم في الامتحان و الاختبار، ضربوا بتلك القواعد عرض الحائط، و أفتوا لأنفسهم بما رأوه مناسبا.
لقد كان هؤلاء يذكرون الناس دائما بأن عليهم ان يثبتوا في وجه الشدائد، و أن يصبروا و يحتسبوا امرهم لله، و أن الله ما ابتلى العبد إلا لأنه يحبه، و أن على العبد المؤمن أن يحسن الظن بربه، و يرددون مع القائل “أن المرء لا يمكن حتى يبتلى” و أنه “بالصبر و اليقين تنال الإمامة في الدين” أو كما كانوا يقولون، و يرددون أيضا، قولة ابن تيمية أن جنته في قلبه و بالتالي لا يملك أعداؤه ان يفعلوا به شيئا، لأنهم إن سجنوه،فسجنه خلوة و إن نفوه، فنفيه سياحة، و إن قتلوه، فقتله شهادة، و يقرأون حديث الرسول “ص” الذي معناه: أن ما خاف الله خوف الله منه جميع خلقه و من لم يخف الله خوفه الله من جميع خلقه، و أنه إذا كان الله راضيا عنك فهذا هو الهدف و هذا هو الأمل. لقد كانوا لا يفترون عن ترديد هذه المحفوظات و لا يملون من تكرارها في كل المناسبات والمواسم، و لكنهم متى ابتلاهم الله كما اقتضت سنته في الأولين و الآخرين لم تر لتلك المحفوظات اثرا عليهم ولم تجدهم كما تقتضي تلك النصوص و المنقولات.
إن هذا الابتلاء البسيط الذي تعرض له الرجل درس هام، و هام جدا، لكل الذين تعودوا أن يلتذوا بوصفهم شيوخا و علماء و حراس عقيدة، و رسالة عظيمة لهم مفادها أنه لا يمكن أن تكونوا شيوخا و رموزا يجلكم الناس و ينقادون لكم، دون أن تدفعوا الثمن.
لطالما ردد هؤلاء على مسامع الناس الآية الكريمة ” أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا أمنا وهم لا يفتنون ….”الآية. ليرد عليهم منطق الاجتماع أحسب هؤلاء الدعاة أن يتركوا أن يزعموا أنهم حماة الدين و حراس العقيدة و أنهم هم الذين يدلون على الله، ويجنوا غنائم ذلك و وهم لا يبتلون. إن الابتلاء هنا هو دليل الصدق.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=14903