كتبه: د. يوسف الحزيمري
بسم الله الرحمان الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وبعد:
كل من يملك سيارة يتوجب عليه سنويا أو دوريا إخضاعها لعملية الفحص التقني، قصد التأكد من صلاحيتها و قدرتها على أداء مهمتها بشكل سليم، تُسلم له على إثر ذلك شهادة سلبية أو ايجابية تبين حالة العربة وكونها قادرة على السير على الطرقات، ولا تشكل خطرا على صاحبها أو باقي مستعملي الطريق.
هذا المثال مادي دنيوي يخص الوسائل التي تحقق للإنسان مآربه الدنيوية، وكل الأشياء المادية التي يصنعها الإنسان لتحقيق رفاهيته وطموحه في العمران والتمدن تحتاج إلى مراقبة وصيانة.
والإنسان إذا أحس بخلل في جهاز من أجهزته الوظيفية في الجسد، فإنه يخضع نفسه لطبيب مختص، ويقوم بإجراء فحوصات وتحاليل لمعرفة مكمن الداء قصد اتباع العلاج المناسب.
هذا عن المادة والجسد، فكيف بك أيها الإنسان بروحك التي بين جنبيك ألا تحتاج هذه الروح للعروج الدائم نحو خالقها والعالم بخفاياها {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، ألا تستعد بها ليوم قيامها {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38]، قال ابن كثير رحمه الله: “وَالْأَشْبَهُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-أَنَّهُمْ بَنُو آدَمَ”[1].
فإذا كانت “الملائكة أعظم المخلوقات قدرا ورتبة، وأكثر قدرة ومكانة، فبين [سبحانه] أنهم لا يتكلمون في موقف القيامة إجلالا لربهم وخوفا منه وخضوعا له، فكيف يكون حال غيرهم.”[2]
لتعلم أيها الإنسان وإن كان هذا ليس غائبا عنك البتة، أنك جسد وروح، فكما تعطي لجسدك ما يحتاجه من شهوتي البطن والفرج، وما يحتاجه من ملبس وزينة للظهور في أحسن صورة، فإن لك أيضا روحا قائمة بالإيمان بالخالق، وهي الأساس الذي يبقى والجسد يبلى، وتحتاج منك إلى تعبئة مستمرة ودائمة لرصيدها في الإيمان.
ومعلوم أن الإيمان يزداد وينقص، نطقت آيات الكتاب العزيز بزيادة الإيمان، قال تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [الأنفال:2] وقال: {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران: 173].
ويزداد الإيمان بالطاعات وينقص بالمعاصي، فطوبى لمن اشتغل بالطاعات ليزداد إيمانه، فهذا من حسن كياسته، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: “من فقه العبد أن يعلم أمزداد هو أو منتقص؟ وإن من فقه العبد أن يعلم نزغات الشيطان أنى تأتيه”[3].
ومن رحمة الله بعباده وفضله عليهم، أن جعل القصد من إيجادهم هو عبادته وحده لا شريك له {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56] قال أهل التفسير: أي: إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي، لا لاحتياجي إليهم،…وأيضا: إلا ليقروا بعبادتي طوعا أو كرها، وقال ابن جريج: إلا ليعرفون…”[4]، وشرع لهم من الدين ما يحققون به هذه العبادة ويحيون بها أرواحهم {أوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام: 122] قال الشيخ ابن عجيبة الحسني:” الروح تكون أولاً على الفطرة التي فطرها الله عليها، من العلم والإقرار بالربوبية، فإذا بلغت قد تطرأ عليها موتات، ثم تحيا من كل واحدة على حسب المشيئة، فقد تموت بالكفر، ثم تحيا بالإيمان، وقد تموت بالذنوب والجرائم، ثم تحيا بالتوبة، وقد تموت بالحظوظ والشهوات، ثم تحيا بالزهد والورع والرياضة، وقد تموت بالغفلة والبطالة ثم تحيا باليقظة والإنابة، وقد تموت برؤية الحس وسجن الأكوان والهيكل، ثم تحيا برؤية المعاني وخروج الفكرة إلى فضاء الشهود والعيان، ثم لا موت بعد هذا إلى أبد الأبد. والله تعالى أعلم.”[5]
وقد جعل الله دين الإسلام قائم على أركان متينة تقوي صلة العبد بربه، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ” بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ “[6]
فمن الأركان الخمسة ما هو اعتقادي وهو الشهادة، وبدني وهو الصلاة، ومالي وهو الزكاة،…. والصوم بدني محض، والحج بدني مالي”[7]، وتقوية صلة العبد بربه هي المقصود الأعظم من العبادة، وإذا تأملنا في مقاصدها جميعا وجدنا مفهوم العبادة شامل لجميع مناحي حياة المسلم، ويتضح لنا أن الحياة كلها يمكن أن تكون مسرحا للعبادة ما دام غايتها إرضاء الله تعالى بفعل الخير والكف عن الشر.
ولهذا وجب على العبد أن يطلب الخير في دهره كله ويتعرض لنفحات الله ، لعله إن أصابته نفحة لا يشقى دنيا ولا أخرى، فعن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته، يصيب بها من يشاء من عباده واسألوه أن يستر عوراتكم، ويؤمن روعاتكم”[8]
وإن لمن أعظم هذه النفحات شهر رمضان المبارك، فمن أدركه أدرك الخير كله، ومن صامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، فرمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما من الذنوب، وهو محطة للتزود الإيماني لما يشمله من فضل عظيم، ويكفيك منها في فضل الصوم أن خصه الله بالإضافة إليه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ….”[9]
قال القرطبي رحمه الله: “وإنما خص الصوم بأنه له، وإن كانت العبادات كلها له، لأمرين باين الصوم بهما سائر العبادات، أحدهما: أن الصوم يمنع من ملاذ النفس وشهواتها ما لا يمنع منه سائر العبادات. الثاني: أن الصوم سر بين العبد وبين ربه لا يظهر إلا له، فلذلك صار مختصا به. وما سواه من العبادات ظاهر، ربما فعله تصنعا ورياء، فلهذا صار أخص بالصوم من غيره”[10]
إن شهر رمضان بمثابة معراج الروح إلى خالقها، لما يتضمنه من الامتثال للخالق من منع النفس عن شهواتها، وتغيير سلوكياتها وعاداتها السيئة، وما فيه من فضل نزول القرآن فيه هدى للناس، وما اشتمل عليه من ليلة القدر هي خير من ألف شهر، فاجتمع فيه ما تفرق في غيره، فالمفلح من اغتنمه، وأدرك أجره وثوابه، وكان في خاتمته من العتقاء من النار.
ـــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1 ـ تفسير ابن كثير ت سلامة (8/ 310)
2 ـ تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (31/ 24)
3 ـ الإبانة (2/ 7/849/ 1140) وأصول الاعتقاد (5/ 1016/1710)
4 ـ تفسير ابن كثير ت سلامة (7/ 425)
5 ـ البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (2/ 165)
6 ـ صحيح البخاري (1/ 11)
7 ـ فتح الباري لابن حجر (3/ 361)
8 ـ رواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (1121) من طريق عبد الله بن وهب به، ورواه ابن عبد البر في التمهيد (5/339) والبيهقي في شعب الإيمان برقم (1122) من طريق عمرو بن الربيع بن طاق عن يحيى بن أيوب به نحوه ورمز له السيوطي بالضعف في الجامع
9 ـ صحيح البخاري (7/ 164)
10 ـ تفسير القرطبي (2/ 273)
المصدر : https://dinpresse.net/?p=14077
Mouadمنذ 4 سنوات
حفظك الله وجعل كل حرف مما تكتب في ميزان حسناتك نعم الرجل الخلوق ومعلم الفاضل