الإعلام الجديد وفكرة الانفلات من السلطة

ذ محمد جناي
آراء ومواقف
ذ محمد جناي4 أبريل 2021آخر تحديث : الأحد 4 أبريل 2021 - 8:45 صباحًا
الإعلام الجديد وفكرة الانفلات من السلطة

ذ. محمد جناي
تعتبر منصات مواقع التواصل الاجتماعي ، ثورة اتصالية بامتياز ، رافقت الإعلام الجديد ، الذي يعتبر متمردا ومنفلتا من كل أشكال الرقابة، وهو متحرر أيضا من كل ثقل أخلاقي، كما أنه أصبح ملجأ للكثير من القوى الكادحة التي تعيش الهشاشة ، والتي تعاني نوعا من القهر الاجتماعي والسياسي ، حيث قدم لها إمكانية التعبير عن نفسها، وساعدها على التحرر من المؤسسات الرسمية، أو الإعلام التقليدي، الذي يبقى فيه المواطن متلقيا ومشاهدا ومتابعا فقط ، بينما الإعلام الجديد خاصة الفيسبوك وتويتر ، حول الفرد إلى صانع للخبر قبل أن يكون متلقيا ، وهذا ما وظفه مجتمع التهميش الذي كان رافضا للوضع السياسي والاقتصادي ، ثم وجد في مواقع التواصل الاجتماعي فضاء للتحضير لحركة احتجاجية ، حيث أصبح المحتجون يؤطرون الواقع عن طريق الفيسبوك ويؤطرون الفيسبوك من خلال الواقع، ويستشرفون مآلاته .

يقول مارشال ماكلوهان: مضمون وسائل الإعلام لا يمكن النظر إليه مستقلا عن تكنولوجيا وسائل الإعلام نفسها إلا أن هذه المقولة تعكس مدى خطورة وسائل الإعلام ، لاسيما الجديدة منها ، حيث جعلت الخبر أو المعلومة منفلتة من كل سلطة ، وأنهت ذلك العصر الذي كانت فيه الحدود واضحة بين صانع الخبر والمتلقي ، حيث أصبحنا اليوم نعيش إعلام المواطن ، الذي يصنع الخبر ويخرجه ، ويدخل عليها ما يشاء من التحديثات ، ويوجهه ، ويستقيل به عن كل ماهو رسمي، حيث ان مواقع التواصل ولاسيما شبكة الفيسبوك ، قد جعلت الإعلام لعبتنا المفضلة ، وأبعدته عن المهنية والاختصاص الوظيفي ، ليتحول إلى هواية يمكن وصفها بالقاتلة في كثير من الأحيان ، فالإعلام الجديد متحرر من كل قيد أو سلطة ، خاصة عندما نكون في مجتمع يغلب عليه الرأي الواحد ، فدخول وسائل التواصل الاجتماعي ، حررت الفرد من التبعية للمؤسسات الرسمية ، ووجد الفرد ضالته في تلك الوسائط ، التي لا تنقل الخبر فقط ، بل تمتزج معه، وتجعله خبرا طازجا ، بعيدا عن كل هيمنة سياسية ، خاصة عند نقله للأخبار السياسية ، للواقع الذي نعيشه ، فهو بمثابة سيل جارف حررنا ، وجعل للفرد أو المواطن الذي يعيش التهميش ، طرقها الخاصة في تناول كل ما هو سياسي ، بجرعة من الحرية والتحرر الزائدين ، خاصة أن الإعلام الحكومي قد أحدث نوعا من الفراغ من حيث المصداقية ومدى نقله للواقع، وتسليط الضوء على مايعنيه المجتمع ، وهنا وجد الإعلام الجديد نفسه مستعدا لسد ذلك الفراغ ، وتحرير المتلقي من أيديولوجية السلطة الحاكمة ، لكن تقييده بأيديولوجية التقنيات والأداة على تعبير يورغن هاربر ماس.

يقول زيجمونت باوم : أننا عاجزون عن خفض السرعة التي يسير بها التغيير إنها مقولة تشير بوضوح إلى عجز كل ماهو تقليدي ، عن كبح جماع التغيرات المرتبطة بالعولمة ، حيث أصبحت أخبار القرية التي نسكن فيها ، تلقى نفس الصدى للأخبار الكونية ، فلا فرق بينهما من ناحية اللحظة والسرعة ، وطريقة الانتشار ، وبذلك يمكن القول إن الإعلام الجديد ، له أثر بالغ في عملية التغيير المتسارعة ، وإن كل أشكال الرقابة لم تعد تجدي نفعا مع هذه الآلة الرهيبة ، حيث لم تعد السلطة السياسية خاصة في بلداننا العربية ، وهي سلطة تتميز بالشمولية وممارسة القمع، والسيطرة على المعلومة والتحكم فيها، لكن في عصر الإعلام الجديد، لم تعد تستطيع هذه السلطة فعل أي شيء ، أمام الكم الهائل من الأخبار المتداولة ، في الفضاءات السيبرانية ، وهي أخبار لايمكن التأكد من صدقها، كونها متسارعة ولا مصدر لها، حيث ان الإعلام الجديد أتاح للمتلقي أو للفرد العادي ، إمكانية صناعة الخبر وإدخال تغيرات عليه، وهنا تكمن خطورة مواقع التواصل الاجتماعي ، وحتى تلك الوسائط التي تقدمها إلينا ، فنحن حقا نعيش زمن اللاحقيقة واللايقين ، حيث إن الإعلام الجديد أنهى مفهوم السيطرة الإعلامية للقنوات المحلية ، بل فرض عليها اقتحام الفضاء السيبراني ،حيث لم تعد القنوات التلفزيونية تكتفي بالمشاهد التقليدي ، بل أصبحت تبحث عن المزيد من المشاهدين، وذلك عن طريق خلق صفحات على مواقع التواصل، خاصة الفيسبوك، وكذلك الإعلام عن طريق التغريد ، عبر تويتر ، وهذا ما أصبح يعتمد عليه الساسة والمشاهير، حيث ان تغريدة واحدة يمكن أن تأثر في الملتقي الجديد أكثر من خطاب كامل على قناة تلفزيونية.

ومن جهة أخرى الإعلام الجديد قوض مؤسسات التنشئة الاجتماعية ، بما فيها الإعلام الرسمي ، حيث أحدث قطيعة اجتماعية داخل الأسر وكل الفضاءات العامة ، التي كان يقصدها الناس لتداول الأخبار ومعالجة ما يهمهم من تغيرات، حيث انهار المكان في فلسفة الإعلام الجديد ، وأصبح اللامكان هو الفضاء الوحيد الذي يجمعنا ، وفيه نطرح قضايا واقعنا، ونبحث لها عن حلول ، فاليوم البيت والمدرسة والمقهى والمسجد ، كلها فضاءات كونية ، فلا أحد يستطيع تقدير الجنسيات التي تدخل وتخرج منها في كل لحظة، عن طريق التقنية ، التي أبهرتنا ، وجعلتنا نبحث عن السعادة في اللامكان ، حيث يقول زيجمونت باومن: هناك من لديه الشجاعة للبحث عن المكان السعيد في اللامكان.

فالواقع المأزوم وتراجع الثقة داخل المجتمع، وكثرة الأزمات ، واتساع الهوة بين الحاكم والمحكوم ، جعل الأفراد يميلون إلى رفض كل ماهو رسمي ، والتأسيس لكل ما هو نابع من المجتمع ومستقل عن السلطة ، ومعادي لها، ومواقع التواصل وفرت هذا الفضاء المتمرد والثائر ، والمتحرر ، خاصة أنه يوفر خاصية دعم كشف الهوية ، في طرح القضايا وفي النيل من السلطة السياسية والتبخيس بها، إنها متعت ممارسة التمرد دون حسيب أو رقيب ، في مجتمع ظلت السلطة السياسية فيه تحتكر كل مجالات الحياة ، وتصادرها باسم القانون، حيث أصبح المكان في الوطن العربي بمافيه المغرب، مصادرا محجوزا من طرف السلطة السياسية ، وبذلك أصبح الإعلام الجديد بمختلف وسائطه يشكل اللامكان الوحيد الحر ، والمنفلت من قبضة السلطة الحاكمة ، وبذلك نقلت إليه جميع الحوارات والنقاشات ، حيث ان القضايا التي كانت تناقش في الأسرة وبين الأصدقاء، أصبحت تناقش اليوم في اللامكان.

إن هذا التحرر من ثقل المكان والرقابة ، حول مواقع التواصل والإعلام الجديد ، إلى فضاء تكونت فيه الكثير من الحركات والكيانات التي تعتبر نفسها مرفوضة اجتماعيا ، أو غير متاح لها التعبير عن كينونتها وهويتها، وبذلك ساعد الإعلام الجديد على بعض الكثير من الهويات النائمة ، أو تلك التي كانت تقبع أسفل الإناء ، غير أنها صعدت اليوم إلى السطح وأصبحت تبحث عن مكان لها ، إذ يمكن القول أن الهويات الهامشية أو تلك التي تقع على الأطراف ، أصبحت اليوم تريد اقتحام المركز وهي تنافسه ، وتهزمه في الكثير من المرات ، حيث أن من خصائص الإعلام الجديد:
السرعة في صناعة الخبر ونشره
التكرار والتضخيم والمبالغة
محاصرة المتلقي واهتمامه بصدق الخبر
الجرأة الزائدة ونبرة التمرد والتحرر
التحيين أو إعلام اللحظة

كان ماركس يقول: هناك شبح يلاحق أوروبا اليوم ، هو شبح الشيوعية ، ونحن نقول: هناك شبح يلاحق الدولة اليوم ، وهو النفور منها، ربما يهيأ نبوءة تجاوزت الدولة ، ككيان واقعي وقائم بحد ذاته، له مؤسساته القمعية ، ومن فلسفاته خضوع الأغلبية لسلطة الأقلية، سواء في النظم الديموقراطية العريقة ، أو حتى تلك الديموقراطيات المشوهة ، التي تعرفها بلداننا العربية ، ومن بينه المغرب ، إذ ينفر الجميع من كل ماهو رسمي ، ويعتبره معادي وكابح لجماع الحرية، وربما مواقع التواصل الاجتماعي ، ومن بينها الفيسبوك ، تحولت إلى ذلك الملاذ الذي يلجأ إليه الناقمون والنافرون من دولة متسلطة ، وتعيش حالة من الفساد، ونجحت في تعميم فكرة لا مجال ولا إمكانية للإصلاح، مما دفع كل المؤسسات إلى الاستقالة، أو الانسحاب من المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي والمدني، حيث تضخمت الدولة القارصة، التي تمسك بزمام كل شيء، وتترك لك حرية فعل أي شيء، مادمت ستعيد إنتاج منطق العبث وتعميم الفساد واللايقين واللا حقيقة ، هنا كان اللامكان هو المكان المفضل لمهاجمة الدولة ، أو منظومة الحكم، والسعي إلى إعادة إشكاليتها، عن طريق التحرك الرقمي في مواقع التواصل، تمهيدا إلى لحظة الانفجار العظيم، وخروج اللاواقع من إجل إعادة ترتيب الواقع.

ختاما:
إنها علاقة طردية تلك التي تربط مواقع التواصل الاجتماعي بالحركات الاحتجاجية ، وكأنهما يسيران على مسار متواز من التطور ، فالتقدم التقني والبرمجي المستمر بمواقع التواصل الاجتماعي، يرافقه بالمقابل استعداد أو تيسير لنشوء حراك احتجاجي ، وقد زادت هذه القابلية منذ اندلاع الحركات الاحتجاجية بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ، ولقد كانت هذه العلاقة تسير ببطء في إطار الإعلام التقليدي .
ـــــــــــــــــ
هوامش:
(1):الأزمنة السائلة -العيش في زمن اللايقين-،ترجمة :حجاج أبو جبر ، تقديم هبة رءوف عزت ، الشبكة العربية للأبحاث والنشر ،لبنان، الطبعة الأولى 2017.
(2):دور مواقع التواصل الاجتماعي في حراك 22 فبراير -الفيسبوك من التنظير والتأطير إلى المرافقة والاستشراف- مجموعة من الباحثين ، مجلة الدراسات الإعلامية -المركز الديمقراطي العربي برلين ألمانيا العدد الثامن أغسطس 2019

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.