محمد ابن الأزرق الأنجري
هل تقاشير العصر جوارب أم لا؟
كان الأستاذ السريري في أوّل الأمر ينفي وجود أئمة محدثين صححوا حديث المغيرة بن شعبة في المسح على الجوربين، ويزعم أنه ضعيف منكر بالإجماع – هكذا – ثم لما ناقشه بعض طلبته والمعترضين عليه بإيراد من صحّحوه ابتداء بالإمام الترمذي في سننه وابن حبان في صحيحه، وبذكر الصحابة الذين ثبت عنهم المسح على الجوربين… يبدو أنه بحث وتحقق غلطه فخرج في دروسه المتأخرة باستنتاج عجيب وهو أن تساخين/تقاشير العصر المصنوعة من الصوف أو القطن وسائر أنواع الثوب غير الجلد ليست هي الجواربة (الجوارب) التي كانت في الزمن الأول، زمن النبوة والصحابة إلى عهد الأئمة الأربعة خصوصا مالك بن أنس.
لقد زعم فضيلة الشيخ أن الجورب بالمعنى العرفي في الزمن الأول هو ذات الخفّ المصنوع من الجلد، أو ما كان من صوف مع التجليد.
قال في الدرس 52 من شرحه على مختصر خليل: (وما هي التساخين؟ صفة أم اسم؟ الجورب والتساخين اسم للخفين).
وقال أيضا – والكلام في الفيديو ذاته غير منتظم ولا متناسق لأنه مرتجل: إما أن الجورب في الزمن الأول لا يكون إلا من جلد وبذلك حددوه بالطريقة العرفية وإما أن يكونوا لا يعرفون حقيقته فاستعملوا القياس وجعلوا شرط إلحاقه بالخف الجلد أن يكون مجلدا. لم يكونوا يلتفتون إلى اللغة نهائيا. إما أن الجلد هو الذي كان عليه الجورب فكان صفة لازمة له لا تنفك عنه وإما أنهم جعلوا الجلد صفة تلحق بالخف. وفي كلتا الحالتين فإن الخف حينئذ سيبنى معناه على اللغة العرفية أو على القياس.
وأضاف: جميع المذاهب التي تحدثت عنه (يقصد الجورب) اشترطوا فيه الشروط التي اشترطوها في الخف ولم يستثنوا منه شيئا. الجورب الآن لفظ عرفي بالإجماع والدليل على ذلك في الشروط. القضية عرفية ولا علاقة لها باللغة. الشرط الأول في الجورب هو أن يكون مصنوعا من جلد.
هل هذا (يقصد تقاشير عصرنا) جورب؟ الجورب لفظة عرفية. تنظر على ما كانت تطلق في زمن النبوة.
ثم جاء بما هو أعجب فقال: الأصل في كل ما يلبس في الرِّجل زمن النبوة أن تصنع من جلد. يقصد أن النعل والخف والجورب والجرموق واللفائف والتساخين كلها كانت من الجلد وكأن العرب لم تعرف الصوف والقطن والكتان…
ثم زعم أن الجورب الذي تحدث عنه الإمام مالك بن أنس هو الخف لأنه مدني. وقال: مالك في المدينة. والصحابة في المدينة. ولا شك أن هذا الذي نقله مالك سوف يكون هو لغة المدينة وإذا كانت كذلك فلا شك أن هذا هو المقصود بالجورب عند الصحابة. بالنقل عن مالك الذي قال لا بد فيه من جلد لأن مالكا يعرف عرف ذلك البلد. رأى ماذا مسح عليه الصحابة فقرر ذلك. رآه في السوق. هـ
إن رأي الشيخ السريري ودعواه أن الجورب في زمن الصحابة ومالك بن أنس هو الخف، وأن جميع ما كان يلبسه الصحابة في أرجلهم مصنوع من الجلد أو مجلَّد به، دعوى عريضة انفرد بها مخالفا اللّغة التي دعا إلى إقصائها عند الحديث في موضوع الجوربين، وذلك لأن الجورب عند اللغويين غير الخف، ومنافرا استعمال الفقهاء منذ الزمن الأول.
إن هدف الشيخ –ربما عن حسن نية- هو الإصرار على أن تقاشير (تساخين) العصر ليست من الجوربين في شيء.
وقد بنى على ذلك أن الوضوء بالمسح على الجوربين باطل، والصلاة بذاك الوضوء باطلة، مصرّحا في آخر دروسه قبل أيام أن ذاك الوضوء باطل بإجماع الأئمة الأربعة بمن فيهم الذي أجاز المسح على الجوربين ذلك لأنه –حسب دعواه- اشترط في الجوربين أن يكونا من جلد!
وهو إجماع مدّعى على الأئمة، لأن الذين أجازوا المسح على الجوربين لم يشترطوا كلهم أن يكونا من جلد أو مجلّدين، ولأن الذين منعوا المسح على الجوربين لم يتفقوا على بطلان وضوء وصلاة الماسح عليهما، بل لم يصرّح أي من الأئمة الأربعة بذلك إلا في خيال الأستاذ السريري حفظه الله.
إن التقاشير اصطلاح عامي دارج، واسمها الفصيح في العربية لغة وعرفا منذ الزمن الأول هو الجوارب (الجواربة) واحدها جورب والاثنان جوربان. ولن يجد الشيخ لها اسما آخر في اللغة والعرف الفقهي إلا ذاك.
والجورب أعمّ قد يكون مجلّدا أو من صوف أو قطن أو كتان خالص…
وكل ذلك كان موجودا قبل الزمن الأول وبعده إلى عصرنا، لكن الشيخ السريري لا يدرك ذلك، ولا يستحضر أن فقهاء مذهبه المالكي هم أول من يعارضه فيما ادعاه دون حجّة ولا برهان.
الأدلة على أن الجورب غير الخف في عرف الزمن الأول:
الدليل الأول: التعريف اللغوي كما هو في المعاجم، لكن الشيخ السريري رفض الاحتكام إليها ونادى بالتعويل على العرف، فنحترم طلبه ونقصي أقوال اللغويين، لكنها قد تأتي في كلام الفقهاء عرضا.
الدليل الثاني: الآثار:
دلّت الأخبار والروايات والآثار من الزمن الأول أن الجوربين غير الخف، وأنهما كانا يصنعان من غير الجلد، لكن الشيخ السريري لم يتأملها، وربما لم يقف على معظمها:
الأثر الأول: روى الدولابي في الكنى والأسماء (2/561) ح1009 أن الْأَزْرَق بْن قَيْسٍ قَالَ: ” رَأَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَحْدَثَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَمَسَحَ عَلَى جَوْرَبَيْنِ مِنْ صُوفٍ فَقُلْتُ: أَتَمْسَحُ عَلَيْهِمَا؟ فَقَالَ: إِنَّهُمَا خُفَّانِ وَلَكِنَّهُمَا مِنْ صُوفٍ”
قال أحمد شاكر في مقدمة كتاب “المسح على الجوربين” للشيخ محمد جمال الدين القاسمي (ص 13 – 15): “وهذا إسناد صحيح.
ومن طريقين عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ضِرَارٍ قَالَ: رَأَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ «أَتَى الْخَلَاءَ، ثُمَّ خَرَجَ وَعَلَيْهِ قَلَنْسُوَةٌ بَيْضَاءُ مَزْرُورَةٌ فَمَسَحَ عَلَى الْقَلَنْسُوَةِ وَعَلَى جَوْرَبَيْنِ لَهُ مرعزي أَسْوَدَيْنِ ثُمَّ صَلَّى». قَالَ الثَّوْرِيُّ: «وَالْقَلَنْسُوَةُ بِمَنْزِلَةِ الْعِمَامَةِ» (مصنف عبد الرزاق الصنعاني (1/190) ومصنف ابن أبي شيبة (1/172).
وفي مصنف عبد الرزاق الصنعاني (1/200) 779 أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ قَالَ: ” نَعَمْ، يَمْسَحُ عَلَيْهِمَا مِثْلَ الْخُفَّيْنِ”.
دلّ أثرا أنس بكل رواياته على أنه كان له جوربان من غير الجلد بل أحدهما من صوف والثاني (مرعزي) أي من الشعر الرقيق للعنز، وأنه كان يراهما بمنزلة الخف في الحكم، لذلك ذكروه في جملة الصحابة الذين أفتوا بالمسح على الجوربين.
الأثر الثاني: في مصنف عبد الرزاق الصنعاني (1/199) ومصنف ابن أبي شيبة (1/ 171)عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: كَانَ أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ «يَمْسَحُ عَلَى جَوْرَبَيْنِ لَهُ مِنْ شَعْرٍ وَنَعْلَيْهِ».
وفيه أن الجورب كان يصنع في الزمن الأول من خيوط شعر الحيوان أيضا، فقوى أحد أثري أنس، والشعر غير الجلد.
الأثر الثالث وشواهده: في مصنف عبد الرزاق الصنعاني (1/201) ومصنف ابن أبي شيبة (1/173) عَنْ يَحْيَى الْبَكَّاءِ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: «الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ».
تفرقة ابن عمر بين الجوربين والخفين قرينة على أنهما مختلفان في الصنعة لكنهما متماثلان في الحكم.
وابن عمر يقيس الجورب على الخف، لكن السريري يزعم في دروسه أن القياس في الرخص لم يقل به أحد من الفقهاء !
وقد وردت الآثار عن جماعة من أهل الزمن الأول قبل مالك بن أنس تؤكد ما دلّ عليه أثر ابن عمر من التمييز بين الجورب والخف في مادة الصنعة مع القياس في الحكم:
في مصنف ابن أبي شيبة (1/173) 1992 عَنْ عَبَّادِ بْنِ رَاشِدٍ، قَالَ: سَأَلْتُ نَافِعًا، عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ، فَقَالَ: «هُمَا بِمَنْزِلَةِ الْخُفَّيْنِ»
ونافع فقيه مدني تلميذ ابن عمر وشيخ مالك بن أنس.
وفي مصنف ابن أبي شيبة (1/171) عَنْ إِبْرَاهِيمَ النخعي، قَالَ: «الْجَوْرَبَانِ وَالنَّعْلَانِ بِمَنْزِلَةِ الْخُفَّيْنِ»
وفي مصنف ابن أبي شيبة (1/171) عَنِ الْحَسَنِ، وَشُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ أَنَّهُمَا قَالَا: «يُمْسَحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ إِذَا كَانَا صَفِيقَيْنِ»
والخف من جلد لا يشترط فيه أن يكون صفيقا، والحسن البصري فرّق بينه وبين الجورب كما في مصنف ابن أبي شيبة (1/173) عَنِ الْحَسَنِ، قال: «الْجَوْرَبَانِ وَالنَّعْلَانِ بِمَنْزِلَةِ الْخُفَّيْنِ، وَكَانَ لَا يَرَى أَنْ يَمْسَحَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا دُونَ صَاحِبِهِ»
وفي مجموع أبي الحسن ابن الحمامي (ص: 233) عن موسى بن هلالٍ: أخبرنا هشامٌ، عن الحسنِ، أنَّه سُئلَ عن المسحِ على الخُفينِ فقالَ: امسحْ. وعن الجَوربينِ، فقالَ: امسحْ.
وفي مصنف ابن أبي شيبة (1/173) عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: «الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ»
فتحصّل لدينا أن الجورب كان يصنع من غير الجلد في الزمن الأول أيام الصحابة والتابعين، وأنهم فرقوا بين الخف الذي يكون كله جلدا، وبين الجورب الذي قد يكون من صوف أو شعر ونحوهما، كما أنهم قاسوا الجوربين على الخفين.
الدليل الثالث: تفرقة الفقهاء بين الخف والجورب:
كان فقهاء الزمن الأول يميزون بين الخفين والجوربين كما تقدم في الدليل الثاني عن جماعة من فقهاء الصحابة والتابعين.
وعلى هذا التمييز صار فقهاء المذاهب، لكن الشيخ السريري يدعي غير ذلك، ويزعم أن الخف والجورب شيء واحد، وينسب ذلك لإمام المذهب المالكي وفقهائه فضلا عن غيرهم، وكأنه لم يطالع أبدا.
لقد اتفق الفقهاء السنة على مشروعية المسح على الخفين، ضمنهم أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، لكنهم اختلفوا في المسح على الجوربين، فمنعه الشافعي، وأجازه أحمد بن حنبل، وتعددت أقوال أبي حنيفة ومالك فيهما.
وعندما تحدث الفقهاء عن الصحابة، فرقوا بين الذين ثبت عنهم المسح على الخفين وهم بالعشرات، وبين الذين مارسوا المسح على الجوربين وهم أقل من عشرين.
وبعد تقرير المصنفين في الفقه حكم المسح على الخفين، ينتقلون لعرض الاختلاف في المسح على الجوربين.
فكيف غاب كل ذلك عن الشيخ السريري وهو يزعم أن الجورب في عرف الصحابة والتابعين والفقهاء الأربعة هو الخف؟
سنكتفي بتذكيره من خلال المذهب المالكي الذي يفترض أنه قرأ كلام فقهائه في المسألة، ولا بأس في تقديم كلام الإمام الشافعي لكونه تلميذ مالك بن أنس ومعاصره المتأثر به ثم لمعرفته باللغة والعرف.
قال في كتاب الأم (1/49): وَإِنْ كَانَ فِي الْخُفِّ خَرْقٌ، وَجَوْرَبٌ يُوَارِي الْقَدَمَ فَلَا نَرَى لَهُ الْمَسْحَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْخُفَّ لَيْسَ بِجَوْرَبٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ تُرِكَ أَنْ يَلْبَسَ دُونَ الْخُفِّ جَوْرَبًا رُئِيَ بَعْضُ رِجْلَيْهِ.
ثم قال: فَإِذَا كَانَ الْخُفَّانِ مِنْ لُبُودٍ أَوْ ثِيَابٍ أَوْ طُفًى فَلَا يَكُونَانِ فِي مَعْنَى الْخُفِّ حَتَّى يُنَعَّلَا جِلْدًا أَوْ خَشَبًا أَوْ مَا يَبْقَى إذَا تُوبِعَ الْمَشْيُ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ كُلُّ مَا عَلَى مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا صَفِيقًا لَا يَشِفُّ، فَإِذَا كَانَ هَكَذَا مَسَحَ عَلَيْهِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَكَذَا لَمْ يَمْسَحْ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ صَفِيقًا لَا يَشِفُّ وَغَيْر مُنَعَّلٍ فَهَذَا جَوْرَبٌ، أَوْ يَكُونَ مُنَعَّلًا وَيَكُونَ يَشِفُّ فَلَا يَكُونُ هَذَا خُفًّا إنَّمَا الْخُفُّ مَا لَمْ يَشِفَّ. هـ
فرق الشافعي بين الخف والجورب، فالخف هو ما كان من جلد لا يشفّ (لا يظهر القدم من تحته)، وفي معناه ما كان من غيره لكنه منعّل جلدا أو خشبا يمكن المشي به، بحيث يكون أسفله جلدا أو خشبا يحقق المشي.
أما الجورب عند الشافعي فيكون من غير الجلد كالثوب، ويكون غير منعّل بالجلد أو الخشب، وقد يُلبَس تحت الخف.
هذا ملخّص كلام الشافعي الإمام العارف بعرف الزمن الأول.
فهل فرّق مالك شيخه بين الخف والجورب؟ أم لم يفرق بينهما كما زعم الأستاذ السريري؟
جاء في المدونة المالكية (1/142-143): مَا جَاءَ فِي هَيْئَةِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ قَالَ: وَقَالَ مَالِكٌ: يَمْسَحُ عَلَى ظُهُورِ الْخُفَّيْنِ وَبُطُونِهِمَا وَلَا يَتْبَعُ غُضُونَهُمَا وَالْغُضُونُ الْكَسْرُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْخُفَّيْنِ عَلَى ظُهُورِ الْقَدَمَيْنِ، وَمَسْحُهُمَا إلَى مَوْضِعِ الْكَعْبَيْنِ مِنْ أَسْفَلُ وَفَوْقُ…
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: كَانَ يَقُولُ مَالِكٌ فِي الْجَوْرَبَيْنِ يَكُونَانِ عَلَى الرِّجْلِ وَأَسْفَلُهُمَا جِلْدٌ مَخْرُوزٌ وَظَاهِرُهُمَا جِلْدٌ مَخْرُوزٌ أَنَّهُ يُمْسَحُ عَلَيْهِمَا. قَالَ: ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لَا يُمْسَحُ عَلَيْهِمَا. قُلْتُ: أَلَيْسَ هَذَا إذَا كَانَ الْجِلْدُ دُونَ الْكَعْبَيْنِ مَا لَمْ يَبْلُغْ بِالْجِلْدِ الْكَعْبَيْنِ؟ قَالَ: وَقَالَ مَالِكٌ: وَإِنْ كَانَ فَوْقَ الْكَعْبَيْنِ فَلَا يَمْسَحُ عَلَيْهِمَا. قُلْتُ: فَإِنْ لَبِسَ جُرْمُوقَيْنِ عَلَى خُفَّيْنِ مَا قَوْلُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ؟ قَالَ: أَمَّا فِي قَوْلِ مَالِكٍ الْأَوَّلِ إذَا كَانَ الْجُرْمُوقَانِ أَسْفَلُهُمَا جِلْدٌ حَتَّى يَبْلُغَا مَوَاضِعَ الْوُضُوءِ مَسَحَ عَلَى الْجُرْمُوقَيْنِ، فَإِنْ كَانَ أَسْفَلُهُمَا لَيْسَ كَذَلِكَ لَمْ يَمْسَحْ عَلَيْهِمَا وَيَنْزِعُهُمَا وَيَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَقَوْلُهُ الْآخَرُ لَا يَمْسَحُ عَلَيْهِمَا أَصْلًا، وَقَوْلُهُ الْأَوَّلُ أَعْجَبُ إلَيَّ إذَا كَانَ عَلَيْهِمَا جِلْدٌ كَمَا وَصَفْتُ لَكَ. هـ
فقد تحدثت المدونة عن حكم المسح على الخفين وهو المشروعية عند الإمام مالك، ثم انتقلت لبيان قوله في الجوربين حيث أجاز المسح عليهما إن كانا مُجلّدين (مغلّفين بالجلد)، ثم تراجع واختار عدم المسح في آخر قوليه.
فمالك يفرق بين الجورب غير المجلّد، والجورب المجلّد، حيث كان يمنع المسح على الأول ويجيزه على الثاني قبل أن يساوي بينهما في الحكم.
فسؤال ابن القاسم عن الجورب المجلد أي المصنوع من صوف أو غيره مع تغليفه بالجلد إلى الكعبين مع بقاء ما فوقهما غير مجلد، قرينة على أن الأصل في الجورب أن يكون من غير الجلد.
ويبدو أن اضطراب مالك بن أنس لم يقنع تلميذه ابن القاسم الذي اختار مشروعية المسح على الجورب المجلّد دون الجورب العادي، وقد وافقه على ذلك قرينه الشافعي.
فالتلميذان يجيزان المسح على الجورب المجلد لأن المشي به ممكن، ولأنه لا يشف، ويمنعان المسح على الجوربين المجرّدين.
هذا، ولم نجد الأئمة مالكا والشافعي وابن القاسم يحكمون ببطلان وضوء وصلاة الماسح على الجوربين، بل يتشددون في الممسوح فقط.
وقد مضى المصنفون المالكية على التمييز بين الخف والجورب، لكن الشيخ السريري لا يستحضر:
في الكافي في فقه أهل المدينة لابن عبد البر (1/176-178): باب المسح على الخفين.
وبعده: ويمسح على الجرموقين ولا يمسح أحد على الجوربين. فإن كان الجوربان مجلدين كالخفين مسح عليهما وقد روي عن مالك: منع المسح على الجوربين وإن كانا مجلدين والأول أصح.
وقال ابن عبد البر في الاستذكار (1/222): وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ إِلَّا أَنْ يَكُونَا مُجَلَّدَيْنِ. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ مَالِكٍ، وَلِمَالِكٍ قَوْلٌ آخَرُ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَإِنْ كَانَا مُجَلَّدَيْنِ.
وفي بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد (1/24-25-26) [الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ] … الْمَسْأَلَةُ الأُولَى فَأَمَّا الْجَوَازُ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ: أَنَّهُ جَائِزٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: جَوَازُهُ فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: مَنْعُ جَوَازِهِ بِإِطْلَاقٍ، وَهُوَ أَشَدُّهَا. وَالْأَقَاوِيلُ الثَّلَاثَةُ مَرْوِيَّةٌ عَنِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَعَنْ مَالِكٍ.
ثم قال: وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ فَأَجَازَ ذَلِكَ قَوْمٌ وَمَنَعَهُ قَوْمٌ. وَمِمَّنْ مَنَعَ ذَلِكَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمِمَّنْ أَجَازَ ذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ.
وفي شرح التلقين للمازري (1/316): إنما لم يجز المسح على الجوربين خلافًا لأبي يوسف وصاحبه محمَّد في إجازتهما المسح على الجوربين، الغير مخروزين إذا كانا ثخينين؛ لأن الآثار إنما جاءت بالمسح على الخفين. والجوربان لا يسميان خفين. والحاجة إلى الخفين فوق الحاجة إليهما. فلا يقاس حكمهما على الخفين، فإن جُلِّدا فقد اختلف فيهما لأنهما أشبها بالتجليد الخفين فقاسهما مرة عليهما ومرة لم يقس على الرخصة ولم يبعد ما جاءت به الآثار.
وفي التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب للشيخ خليل صاحب المختصر الشهير (1/221): فَلا يَمْسَحُ عَلَى الْجَوْرَبِ وشَبِهْهِ، وَلا عَلَى الْجُرْمُوِقِ إِلا أَنْ يَكُونَ مِنْ فَوقِه وَمِنْ تَحْتِهِ جِلْدٍّ مَخْرُوزٌ ثُمَّ قَالَ: لا يَمْسَحُ عَلَيْهِ. وَاختْاَرَ ابْنُ الْقَاسِمِ الأَوَّلَ، وَهُوَ جَوْرَبٌ مُجَلَّدٌ، وَقِيلَ: خُفٌّ غَلِيظٌ ذُو سَاقَيْنِ. وَقِيلَ: يَمْسَحُ عَلَيْهِمَا مطلقاً … هذا راجعٌ إلى قولِه: (خُفّا). و(الْجَوْرَبِ) ما كان على شَكْلِ الخُفِّ مِن كَتَّانٍ أو صوفٍ، أو غيرِ ذلكَ. (وشَبِهْهِ) الخِرَقُ تُلَفُّ على الرِّجْلِ. و (الْجُرْمُوقِ) بضمِّ الجيمِ والميمِ بينهما راءٌ ساكنةٌ، فَسَّرَهُ مالكٌ في روايةِ ابنِ القاسمِ بأنه جوربٌ مُجَلَّدٌ، مِن فوقِه ومِن تحتِه جلدٌ مَخْرُوزٌ. وعلى هذا فإطلاقُ الجرموقِ عليه قَبْلَ التجليدِ مجازٌ.
فهذا الشيخ خليل يصرّح أن الجورب يشبه الخف لكنه من كتان أو صوف أو غير ذلك، فكان على الشيخ السريري أن يراجع كلامه هنا المفصل ليفهم متنه في المختصر الخليلي أكثر تماما كما فعل الحطاب في شرحه على مختصر خليل.
وفي القوانين الفقهية لابن جزي (ص: 30): أما الخفان فَيجوز الْمسْح عَلَيْهِمَا عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة فِي السّفر والحضر بِسِتَّة شُرُوط وَهِي أَن يكون الْخُف من جلد – تَحَرُّزًا من الجورب – وَأَن يكون ساترا إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَأَن يكون صَحِيحا أَو بخرق يسير والخرق الْكَبِير مَا لَا يُمكن بِهِ مُتَابعَة الْمَشْي.
وفي عون المعبود وحاشية ابن القيم (1/185): قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي عَارِضَةِ الْأَحْوَذِيِّ: الْجَوْرَبُ غِشَاءٌ لِلْقَدَمِ مِنْ صُوفٍ يُتَّخَذُ لِلدِّفَاءِ وَهُوَ التَّسْخَانُ. هـ
خلاصة المبحث:
الجورب غير الخف لأن الأخير جلد كلّه، ويطلق في عرف الصحابة والتابعين وهلمّ جرا على غشاء الرجل من صوف أو كتان أو شعر سواء كان أسفله وظاهره مجلّدين أم لا.
وكانوا يلبسون أحيانا الخف فوق الجورب لتسخين أقدامهم كما أفاد الشافعي، لأن المشي بالخف في الأرض الرملية أو التربة ممكن بخلاف الجورب الذي سيسرع إليه الوسخ والتّلف.
وما قاله الشافعي نجده في كلام أحد أئمة الحنفية – وهو محمد بن الحسن الشيباني – تلميذ أبي حنيفة ومالك وأحد شيوخ الشافعي أيضا، ففي الأصل المعروف بالمبسوط للشيباني (1/100): قلت: أَرَأَيْت رجلا تَوَضَّأ وَمسح على خفيه ثمَّ نزعهما وَعَليهِ جوربان، ثمَّ أحدث، أيجزيه أَن يمسح على الجوربين وَيُصلي؟ قَالَ: لَا. قلت: لم؟ قَالَ: لِأَن الْمسْح على الجوربين لَا يجزئ، وَلكنه يخلع جوربيه وَيغسل قَدَمَيْهِ. وَهَذَا قَول أبي حنيفَة. وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: يجْزِيه الْمسْح على الجوربين. هـ
فتبيّن أن تقاشير عصرنا هي جوارب العصر الأول لأنها تُلبس تحت الخف أو النعل والحذاء، وتكون من غير الجلد، وليس هذا محلّ مناقشة باقي شروط المسح عليها.
وظهر خطأ الفقيه مولود السريري حفظه الله حين ادعى أن الصحابة لم يلبسوا شيئا في أقدامهم إلا من جلد، وأن الجورب الذي مسحه الصحابة ومن بعدهم هو المصنوع من جلد أو ما كان مجلدا فهو الخف ذاته في عرف الزمن الأول.
وأشنع من ذلك كله ادعاؤه المتكرر أن وضوء وصلاة الماسح على الجوربين باطلان بإجماع الأئمة الأربعة بمن فيهم الذي يجيز المسح على الجورب وهو أحمد بن حنبل، لأنه ما كان من جلد أو مجلدا في عرفه.
والحق أن أحدا من الأربعة وغيرهم لم يصرح ببطلان الوضوء أو الصلاة وإن كان بعضهم قرر عدم إجزاء المسح على الجوربين، وهما أبو حنيفة والشافعي، أما مالك بن أنس فلم يزد على قوله: لا يمسح عليهما. وأما أحمد بن حنبل، فمذهبه المسح على الجوربين بشرطين هما الكثافة بحيث لا يكون الجورب شفافا ثم ثباته على القدمين:
جاء في مسائل حرب الكرماني كتاب الطهارة بتحقيق عامر بهجت (ص: 364):
485 – سألت أحمد عن المسح على الجوربين؟ قال: يمسح إذا ثبتا على قدميه.
486 – ورأيت أحمد -مرة أخرى- رأى في رجلي جوربًا رقيقًا قد استرخى من الساق فقال: لا يجوز عليه المسح؛ لأنه ليس يثبت على المكان.
وفي المغني لابن قدامة المقدسي (1/215): [الْمَسْح عَلَى الْجَوْرَب الصَّفِيقُ الَّذِي لَا يَسْقُطُ إذَا مَشَى فِيهِ]: (426) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَكَذَلِكَ الْجَوْرَبُ الصَّفِيقُ الَّذِي لَا يَسْقُطُ إذَا مَشَى فِيهِ) إنَّمَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبِ بِالشَّرْطَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي الْخُفِّ، أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ صَفِيقًا، لَا يَبْدُو مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ الْقَدَمِ. الثَّانِي أَنْ يُمْكِنَ مُتَابَعَةُ الْمَشْيِ فِيهِ. هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ. قَالَ أَحْمَدُ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ بِغَيْرِ نَعْلٍ: إذَا كَانَ يَمْشِي عَلَيْهِمَا، وَيَثْبُتَانِ فِي رِجْلَيْهِ، فَلَا بَأْسَ. وَفِي مَوْضِعٍ قَالَ: يَمْسَحُ عَلَيْهِمَا إذَا ثَبَتَا فِي الْعَقِبِ. وَفِي مَوْضِعٍ قَالَ: إنْ كَانَ يَمْشِي فِيهِ فَلَا يَنْثَنِي، فَلَا بَأْسَ بِالْمَسْحِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ إذَا انْثَنَى ظَهَرَ مَوْضِعُ الْوُضُوءِ. وَلَا يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَا مُجَلَّدَيْنِ، قَالَ أَحْمَدُ: يُذْكَرُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ عَنْ سَبْعَةٍ، أَوْ ثَمَانِيَةٍ، مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. هـ
هذا وقد أعلن الشيخ السريري أنه مستعد لمعاودة النظر في موقفه – وهذا جميل منه يحسب له – بشروط، أحدها أن يثبت له المخالفون خطأه بخصوص الحقيقة العرفية للجورب، فنرجو أن يصله هذا التحقيق لينظره ويتأمله ويراجع قراره، وقبل ذلك ألتمس من فضيلته القطع مع الجزم ببطلان صلاة الماسحين على الجوربين فإنه كلام مبتدع شنيع.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=13804
نورفلق إدريسمنذ سنة واحدة
جزاك الله خيرا الجزاء