ذ. محمد جناي
الحياة الإنسانية سلسلة من الحلقات العمرية تتعاقب بانتظام، وفق سنن محكمة، منذ بدايتها وحتى نهايتها ،وأول هذه الحلقات العمرية، بل أكثرها أهمية مرحلة الطفولة ،وللطفولة طبيعتها الخاصة، التي تتصف بالضعف، واعتماد الصغير على الكبار في توفير متطلبات الحياة والاستمرار فيها، ومن أجل هذا أصبحت الأسرة هي النواة الأساسية للمجتمع، والتي تتعهد الطفل بدفء العناية والرعاية والحب والأمان، منذ نعومة أظافره حتى يشب ويستطيع الاعتماد على نفسه والانطلاق في دروب الحياة ،وذلك من خلال التفاعل الأسري المستمر بين الوالدين وأطفالهم الذي يساعد على نضج شخصيتهم وبلورتها وإظهارها في إطار مقبول اجتماعيا.
حيث بدأ الاهتمام بالطفل في مطلع العشرينات من القرن الماضي بظهور قوانين لحماية الطفل حيث صدر أول إعلان لحقوق الطفل في العام 1923 وتبلور عنه إعلان جنيف لحقوق الطفل في العام 1924 ثم اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1959 إعلانا عالميا لحقوق الطفل و تلى ذلك إعلان عام 1979 سنة دولية للطفل، وفي عام 1989 صدرت اتفاقية حقوق الطفل التي تعهدت بحماية وتعزيز حقوق الطفل ودعم نموه ونمائه ومناهضة كافة أشكال ومستويات العنف الذي قد يوجه ضده، وتضمنت المادة (19) من الاتفاقية حماية الطفل من كافة أشكال العنف والإيذاء البدني والعقلي والاستغلال الجنسي وغيره ووجوب اتخاذ الدولة الإجراءات الكفيلة بمنع ذلك بما فيها تدخل القضاء.
تعرف الإساءة بأنها: أي سلوك عنيف وقاسي يتضمن سخرية وازدراء موجها ضد الطفل من والديه أو القائمين على رعايته مما ينتج عنه إصابة الطفل بجرح أو إيذائه بدنيا ونفسيا أثناء التفاعل ومواقف التنشئة ومن شأنه حرمان الطفل من حقوقه وتقييد حريته سواء كان هذا السلوك نتيجة إهمال أو خطأ مقصود بهدف تهذيب الطفل أو عقابه ،ويتضمن ذلك السلوك الضرب بالعصا أو الحزام والرفس والصفح على الوجه واللكم الشديد والحرق والقرص وجذب الشعر والدفع بقوة والعض وتقييده بالحبل “.
حيث يتعرض الطفل لأنواع مختلفة من أنماط الإساءة ، ومنها “إساءة المعاملة البدنية “والذي يعد هذا النوع من الإساءة من أكثر أنواع الإساءة شيوعا ، وذلك بسبب سهولة اكتشاف وملاحظة أعراضه الظاهرة ويشكل الوالدان والقائمون على رعاية وتنشئة الطفل المصدر الرئيسي في إيقاع هذا الإيذاء ،فالإساءة البدنية هي سلوك التدخل المقصود أو عدم التدخل المقصود من قبل الوالدين أو القائمين على رعاية الأطفال والذي يؤدي إلى حدوث إصابات وجروح جسيمة أو يترك أثارا نفسية واجتماعية سيئة على الأطفال تعوق نموهم النفسي والاجتماعي وتؤثر على شخصيتهم تأثيرا سلبيا بليغا.
ولهذا تعتبر مشكلة إساءة معاملة الأطفال وعدم تلبية حاجاتهم البدنية والنفسية والاجتماعية الأساسية من المشكلات القديمة الحديثة التي عانت ولا تزال يعاني منها الكثير من المجتمعات، ولكن هذه المشكلة لم تكن واضحة أو معترف بها في السابق كما هي عليه اليوم ، حيث بدأت الكثير من المجتمعات تتحدث عن هذه المشكلة وتبرز الإحصائيات التي تشير إلى حجم هذه الظاهرة وتقوم بإجراء الدراسات والبحوث المتخصصة للتعرف على أسبابها والعوامل المرتبطة بها وآثارها بهدف إيجاد الحلول المناسبة للتعامل معها.
إن نجاح الأسرة في نهوضها بدورها في عملية التنشئة الاجتماعية مرهون بأمرين:
الأول: أن تهيئ المناخ الأسري المناسب الخالي من المشكلات والأزمات الأسرية، والتصدع الأسري بكافة أشكاله، لتنشئة الأطفال وتربيتهم في جو آمن يتميز بالمحبة والأمان، والود والعطاء، والاستقرار النفسي ، لتوفير مشاعر الأمن لدى الطفل ،حيث يرى علماء النفس أن الأسرة المتكاملة ليست تلك التي تكفل لأبناءها الرعاية الاقتصادية والاجتماعية والصحية فحسب ، بل هي الأسرة التي تهيئ لهم الجو النفسي الملائم أيضا، ومن هنا فإن مجرد وجود الطفل في بيت واحد مع والديه لا يعني دائما أنه يحيا في أسرة أو أنه يلقى العناية الأبوية الكافية.
الثاني: أن تتبع الأسرة الأساليب التربوية الصحيحة في تنشئة أبنائها ويقتضي ذلك بطبيعة الحال العلم بهذه الأساليب وتمثلها في الحياة اليومية للأسرة في علاقة الآباء بالأبناء.
ولكن مع وجود الكثير من التعقيدات والتغيرات والتطورات ، وزيادة أعباء الحياة المعاصرة ومشكلاتها ، قد لا تتمكن الأسرة من النهوض بدورها في عملية التنشئة الاجتماعية للأطفال ، فقد تؤدي الظروف المختلفة للأسرة ، مثل العوامل التي تتعلق بأفرادها أو العوامل الاجتماعية والاقتصادية المحيطة بها ، والتي تؤدي إلى الحيلولة دون تمكن الأسرة من توفير الجو الآمن الهادئ لعملية التنشئة ، وقد تحول هذه الظروف دون إتباع أساليب التنشئة الأسرية الصحيحة ، إما الجهل بهذه الأساليب أو بعضها أو إهمالها ، أو إتباع أساليب تربوية خاطئة تتسم بالتشدد الزائد أو الحماية المبالغ فيها لسبب أو لآخر ، وقد تتطور المسألة فتصل إلى الإساءة إلى الأطفال بشكل أو بآخر ، وإيذائهم جسمانيا بالضرب أو خلافه ، أو نفسيا بالشتم والسب وغير ذلك ، وربما يحدث في بعض الحالات أن يتعرض الأطفال للتحرش أو الإساءة الجنسية كنتيجة لإهمال الوالدين وعدم قيامهما بالدور المنوط بهما في عملية التنشئة الاجتماعية للأطفال.
ولقد تفاوت الشعور بهذه الظاهرة ومن ثم الاهتمام بها من مجتمع إلى آخر ، ففي المجتمع الإسلامي جاء الاهتمام بالطفل متمثلا بالنظرة الإنسانية التي تحافظ على الطفولة وترعاها يقول الله عز وجل (اِ۬لْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ اُ۬لْحَيَوٰةِ اِ۬لدُّنْي۪اۖ) (الكهف :45) ، والإسلام باهتمامه بالطفولة سبق كل القوانين والتشريعات الدولية في ذلك، فالتشريعات القرآنية والسنة النبوية ألزمت المسلمين العناية بالطفولة ،وعالج الإسلام الظروف الاجتماعية والاقتصادية والنفسية التي تؤثر على الطفل بما في ذلك إساءة معاملته حيث دعا إلى تعليم الطفل وتربيته تربية سليمة وتنشئته تنشئة دينية.
لقد عنيت الشريعة الإسلامية بالطفل فجعلت له حقوقا وعملت على حمايته والمحافظة عليه منذ كونه جنينا في بطن أمه وحتى ولادته؛ حيت منحته حقوقا متعددة وشرعت له من الأحكام مايكفل استمراره وبقاءه واستمرار نموه، ومن ضمن حقوق الطفل حسن المعاملة والرأفة والرفق بهم ورعايتهم وتأديبهم واتباع الطريقة الأمثل في تربيتهم وتأديبهم وتوجيههم، وقد نبذ الإسلام العنف والأذى بكافة صوره وأنواعه، حيث يوجد الكثير من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي توضح حرمة ذلك ومنها قوله تعالى: ( وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ اَ۬لْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَۖ) ( آل عمران :159)، وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البيهقي ” إن أراد الله تعالى بأهل بيت خيراََ أدخل عليهم الرفق، وإن الرفق لو كان خلقا لما رأي الناس خلقا أحسن منه ، وإن العنف لو كان خلقا لما رأي الناس خلقا أقبح منه “.
ومن العوامل المسببة لإساءة الأطفال نجد في مقدمتها العوامل الأسرية حيث تعد الأسرة هي المصدر الرئيسي في عملية التنشئة الاجتماعية لما لها من دور كبير في رعاية الطفل وإشباع حاجاته الأساسية من طعام وشراب وإشعاره بالأمن،إلا أن هناك العديد من العقبات أمام الأسرة والذي أثر ذلك تأثيراً كبيراً على عملية التنشئة الاجتماعية واتبعت كثير من الأسر ممارسات أساءت بها الى الطفل ومنها ما يأتي:
1. خروج الأم للعمل واستمرارها به لساعات طويلة خلال النهار وحرمان الطفل من العطف والحنان.
2. الخلافات الأسرية بسبب الظروف الاقتصادية وما نجم عن ذلك من فراق او طلاق بين الوالدين.
3. إنشغال الآباء بالعمل او الهجرة الى خارج الوطن وغيابهم المستمر عن الأسرة.
4. إزدياد عدد حالات الأسر التي تعيش تحت خط الفقر المدقع وسوء التغذية.
5. الضغوط النفسية التي يعانيها أحد الوالدين او كلاهما التي تؤثر تأثيراً كبيراً في رعاية الطفل.
6. ضيق المسكن وكبت حرية الطفل.
7. قضاء الأطفال الوقت الطويل خارج المنزل.
8. جهل الوالدين بأساليب التنشئة الاجتماعية السليمة.
9. إرتفاع عدد أفراد الأسرة الذين يعيشون في منزل واحد.
10. المعاملة التمييزية ضمن الأسرة.
11. عزلة الأسرة اجتماعياً وضعف العلاقات الأسرية والشخصية والاجتماعية.
12. ضعف الإحساس بالمسؤولية تجاه أفراد الأسرة.
وختاما: فإن ظاهرة الإساءة إلى الأطفال بأي صورةٍ من الصور تُعد خللا اجتماعيًا له العديد من السلبيات ويترتب عليه الكثير من المفاسد ، ونحن مطالبون بأن نتصدى لهذه الظاهرة المؤسفة ولغيرها من الظواهر السلبية بكل ما يمكن من الطرائق والكيفيات الفردية والمجتمعية التي تكفل لنا حماية المجتمع من كل ما يؤثر عليه ويهدد سلامة أفراده.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=13209