ذ. محمد جناي
الدولة التي مرجعيتها الدستور والقانون هي دولة لجميع مواطنيها لا تميز بينهم في العرق أو اللغة أو الجنس أو الدين، ولهذا فإن تدين المواطن أو عدم تدينه، أو إيمانه أو عدم إيمانه ليس من شأن الدولة، وليس للمواطن المتدين أو التابع لدين أغلبية الشعب أو التابع لدين أقليته ميزة على غيره، فالدولة كمؤسسات وموظفين تُمارس الحياد بخصوص دين وتدين مواطنيها، ولكن هذا الحياد لا يتعارض مع أن الدولة قد تتصف وتُعرف بمظاهر دين مواطنيها فيكون لها طابع دين أغلبيتهم، فالزائر لبريطانيا مثلاً يستدل من العطلة الأسبوعية ومن احتفالات الدولة وثقافتها بأنها دولة بطابع مسيحي، إلا أن ذلك الطابع والإرث المسيحي لا يغير من حقيقة مرجعيتها.
وفي هذا النطاق فإنه لا يعيب الدولة المدنية أن تلحق بركبها أحزاب بتوجهات دينية، بعد أن غيرت تلك الأحزاب هدفها المعلن بإقامة دولة دينية وانضوت تحت راية الدستور، وبهذا المعنى يصير الدستور بمثابة عقد اجتماعي على الشراكة في وطن، وكيفية إدارة الدولة، وحسم الخلافات المتعلقة بشؤون السياسة والاقتصاد وإدارة المجتمع، بغض النظر عن من كان في الحكم خلال هذه الفترة أو تلك، سواء كان حزبا دينيا أو علمانيا.
وبذريعة مواجهة التطرف والإرهاب ظهرت في الآونة الأخيرة “مليشيات ” ضمت نفرا من المثقفين كانت مهمتهم ومازالت، محاولة قطع الطريق على تقدم مايطلق عليه بالصحوة الإسلامية أو المشروع الإسلامي، بمختلف الوسائل المشروعة وغير المشروعة، وبشكل أساسي فإن الذين انخرطوا في تلك المليشيات كانوا خليطا من غلاة العلمانيين واليساريين الماركسيين، وغيرهم من الذين نجحت حملات التعبئة في تخويفهم من الإسلام والمسلمين، أو الذين استقرت في أعماقهم كراهية الإثنين، ووجدوا أن مكانهم الطبيعي هو في معسكر (الضد) الرافض لكل ماهو إسلامي.
ومع الدعوة دائما بضرورة التفرقة بين المعتدلين والمتطرفين والغلاة من العلمانيين، فالأولون قد يختلفون مع الإسلاميين في النظرة إلى دور الدين في المجتمع وفي طروحاتهم مايستحق التقدير والحفاوة، مثل الدفاع عن الديموقراطية والتعددية، بينما نجد الغلاة لايختلفون حول تطبيقات الدين فحسب – شأن المعتدلين- لكنهم يعمدون إلى تجريح الدين ذاته ولهذا نجد أنفسنا ندرك أهمية التفرقة بين النقد الموضوعي الذي ينبغي أن يرحب به وأن يتسع الصدر له، وبين الاجتراء الذي هو بمثابة تطاول على ثوابت الأمة والمقومات الأساسية للمجتمع، والفرق بين الإثنين هو بالضبط الفرق بين الحوار والسب، والأول موقف إيجابي أيا كان اتجاهه، والثاني مسلك سلبي بكل المقاييس.
ولا ننسى أن صنفين من الناس يضيقون ذرعا بأهل العلم والوعظ، فلا يحتملون لهم حضورا ، ولا يرجون لهم وقارا: غلاة المنتسبين إلى الإسلام، وغلاة العلمانيين من الرافضين للإسلام كله أو بعضه، إذ بالرغم من التناقض الظاهر بينهم، فإننا إذا راجعنا خطاب الطرفين في هذه المسألة فسنكتشف أن هؤلاء وهؤلاء يقفون في صف واحد، الأولون يتمنون لو أسكتوا صوت الشيوخ لكي ينفردوا بالساحة ويعززوا من سطوتهم على عقول الناس، والآخرون يشاركونهم الشعور نفسه، وإن استهدفوا شيئا آخر هو ألا يعلوا للإسلام صوت ولا تبقى لرموزه ورجاله هيبة أو كرامة.
والسؤال المطروح في هذا المقال هو هل يدعو الإسلام إلى سلطة دينية (الدولة الدينية )؟
بطبيعة الحال هذا سؤال معلق في الوعي الجمعي للأمة منذ أكثر من قرن على الأقل، فالإسلاميون يردون عليه بالنفي، ويحشدون لذلك النصوص والأدلة والبراهين، بينما خصومهم يصرون على الإيجاب، ولم يكفوا طيلة تلك العقود عن ترديد السؤال، واستخدام فزاعة السلطة الدينية كلما لاحت شواهد الإسلام ، أو ثار حوار حول خيارات المستقبل.
إن إحدى المشكلات الأساسية في التعامل مع الموضوع، أن هناك تخليطا وتداخلا بين العناوين والمفردات، من شأنهما أن يضيعا معالم القضية المطروحة للمناقشة، ولذا فمن المهم أن يكون واضحا للجميع عن أي شيء نتحدث أو نتحاور عن الإسلام ؟ أم عن الإسلام السياسي الذي ابتدعه البعض؟ أم عن حركات الإسلام السياسي؟ وحيث نفترض أن تلك الجماعات تستلهم أفكارها من الإسلام، فإنه يظل من المهم للغاية أن نوضح أولا موقف الإسلام من قضية السلطة لنقيس به أو نحاكم إن شئنا موقف الجماعات التي تنسب نفسها إليه.
وحتى لانتوه في هذه النقطة، فينبغي أن نتفق على أن المصدر الأساسي الذي يرجع إليه في تحديد موقف الإسلام هو القرآن والسنة النبوية الصحيحة، وكل كلام خارج هذا الإطار لايلزم، ويؤخذ منه ويرد في نهاية المطاف.
من هذه الزاوية، فإن الإسلام الذي يعرفه أهل السنة والجماعة -الذين يمثلون أكثر من 90٪ من المسلمين- لايعرف عصمة لأحد، حاكما كان أو إماما، ولايعطى لكائن من كان -فردا كان أو جماعة-حق الحكم باسم الله، ولا حق احتكار السلطة، ولا حق فرض أي اجتهاد على الناس، والحكم أساسه رضا الناس واختيارهم، حيث ولاية الأمة هي الأصل.
ثم إنه حكم جماعة وليس حكم فرد، حيث لم يرد في القرآن مصطلح (ولي الأمر)، إنما الحديث دائما عن (أولي الأمر)، والشورى الملزمة هي قاعدة الحكم وشرط صلاحيته، والمعارضة واجب وليست حقا فقط، حيث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو فرض عين على كل مسلم ومسلمة، ولئن حاصره البعض في الأمور الأخلاقية، بينما هو في الأساس أحد ركائز العمل السياسي، فتلك مسئولية المسلمين ومشكلتهم، وعلى هذه العناصر تتفق الأغلبية الساحقة من أهل العلم، بعكس مايشاع أو يتوهم كثيرون.
وعندما نرجع إلى مصطلح الدولة الدينية (الثيوقراطية) في البيئة التي نشأت فيها (البيئة الوثنية والبيئة النصرانية) نجد أن الأمر جد مختلف، فالدولة الدينية في تصورهم هي الدولة التي يكون الحاكم فيها ذا طبيعة إلهية (إله أو ابن إله) أو أنه مختار بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من الله تعالى حسب ما عرف بنظرية الحق الإلهي، أو الدولة التي تمتزج فيها إرادة الحاكم بإرادة الإله ومن ثم يكون ما يصدر عن الحاكم كأنما يصدر عن الإله، ويترتب على ذلك أن يكون الحاكم في منزلة عالية لا يرقى إليها أحد من أفراد الشعب، وأنه لا يعترض على أقواله أو أفعاله، وليس لأحد قبله حقوق أو التزامات بل عليهم الخضوع التام لإرادة الحاكم حيث لا حق لهم في مقاومته أو الاعتراض عليه، ومن البين أن هذا التصور للحاكم لا وجود له في الفقه السياسي الإسلامي، ولا في التاريخ الإسلامي، فالحاكم بشر خالص ليس له علاقة بالله إلا علاقة العبودية والخضوع لبارئه، وللمسلمين الحق في متابعته ومراقبته ومحاسبته، وكذا مقاومته لو خرج عن حدود الشرع الذي يجب عليه التقيد به.
لقد كان الإمام محمد عبده معبرا أصدق تعبير عن حقيقة موقف الإسلام من السلطة الدينية حيث قال :” إن الإسلام هدم بناء تلك السلطة ، ومحا أثرها ، حتى لم يبق لها عند الجمهور من أهله اسم ورسم ، لم يدع الإسلام لأحد بعد الله ورسوله سلطانا على عقيدة أحد ولا سيطرة على إيمانه .. ولم يجعل لأحد من أهله أن يحل ولا أن يربط لا في الأرض ولا في السماء ، بل الإيمان يعتق المؤمن من كل رقيب عليه فيما بينه وبين الله ، سوى الله وحده ، وليس لمسلم مهما علا كعبه في الإسلام على آخر ، مهما انحطت منزلته فيه ، إلا حق النصيحة والإرشاد “.
وما يشهده الإسلام اليوم من تأويلات وتحريفات للنصوص الدينية تشرع العنف في أفظع مظاهره، عرفته كذلك المؤسسة الكنسية في القرون الوسطى بكل ما نجم عنه من مظاهر غير إنسانية ومجازر وحروب دموية أودت بالملايين، من محاكم التفتيش المرعبة وفنون التعذيب الإجرامية، الى الحروب الصليبية التي وظفت الدين في السيطرة على سائر الشعوب، ويسجل التاريخ الإسلامي أنه لم يثبت فعلياً أن دولة دينية قد تحققت في يوم من الأيام، وأن فكر التيارات الإسلامية المتطرفة ليس أكثر من كلمات تؤجج الوعي الإسلامي وتحشد الجماهير في الصراع السياسي القائم ،وفي كل ذلك دلالة على استحالة قيام أو وجود دولة دينية يقودها رجال الدين وتطبق القيم الدينية وتنشر العدالة والمساواة بين البشر. فالمسار الدموي الذي انخرطت فيه المجتمعات المسيحية والإسلامية على السواء يؤكد استحالة أن يكون الدين عنصر توحيد وطني في أي مجتمع من المجتمعات. وإذا كانت اليهودية قد حققت أسطورتها عبر قيام دولة إسرائيل، إلا انه لا يوجد في قانون هذه الدولة أي إشارة إلى الشريعة اليهودية كمصدر للتشريع، والحكم فيها يقوم على المواطنية، كما لا يعطي القانون الحاخامات أية سلطة في التشريع أو اختيار الحاكم بل يتساوى هؤلاء وسائر فئات الشعب، وقد تحول المجتمع الذي أراده الصهاينة موحداً مجتمعاً متعدد الثقافات والطوائف.
وما يصح على الدولة اليهودية يصح كذلك على الدولة المسيحية، فقد باءت بالفشل كل محاولات الأساقفة لفرض سلطة الكنيسة على المجتمعات المسيحية، بل كان هناك ما يشبه التواطؤ بين الكنيسة والسلطة الزمنية، فتقدم الكنيسة المشروعية الدينية للسلطة فيما تساعد السلطة الكنيسة على فرض لاهوتها على المجتمع.
ونختم بالقول أن تاريخ المسلمين وآراء أئمتهم، يعرفون جيدا أن السلطة الدينية لم تقم يوما في دولة الإسلام، وأن إحدى المشكلات التي واجهت الدولة لم تكن الحكم باسم الله، ولا قداسة الأشخاص أو الآراء، ولكن المشكلة الأساسية كانت اجتراء المسلمين على السلطة وخروجهم عليها باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى إن أحد المذاهب الإسلامية (الزيدية) قام أساسا على فكرة الخروج على الحاكم الظالم، الذي عرفوه بأنه (كل من احتكر سلطة أو مالا).
ـــــــــــــ
المراجع المعتمدة
2:فهمي هويدي ، المفترون -خطاب التطرف العلماني في الميزان -دار الشروق.
3:د. محمد بن شاكر الشريف،إشكالية المصطلحات: الدولة الدينية والدولة المدنية، مجلة البيان السعودية.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=11944