عبد الخالق بدري
تعمدت أن أضع هذا العنوان، لأننا مررنا بامتحان وتجربة ودعوني اسميه “تمرينا”، خصوصا بعد سيل من بيانات المؤسسة الدينية تفاعلا مع جائحة كورونا، وتدبيرا لأهم مؤسسة عبادة، وسال مداد كثير وكتابات وخطابات وحملات، فيها نوع من النقد د، ومن جهة أخرى فيها نوع من التحريض..نظرا لمركزية مؤسسة المسجد في العقل الوجداني، وبلغ استقطاب حاد حول المؤسسة من طرف العديد من الجهات، وأبرز هذه الجهات “الاسلاميون” بشتى تلاوينهم، ومررت رسائل معلنة ومبطنة تؤشر أن “المسجد” مازالت العديد من الجهات د تراهن عليه في الحشد أو في التأيرالأيديولوجي.
وبالنسبة لي في فترة التحولات الحادة خلال الأحداث التي شهدها العالم العربي منذ 2011، استهجن وانتهكت حرمة المسجد، وأصبح مؤسسة للاستقطاب لا العبادة، وأدخلت العديد من الجهات في حقل ملغوم لا يليق بوظيفته، وخلال فترة الحجر عشنا جميعا حالة الاستقطاب اتجاه المؤسسة، الرهان اليوم علينا جميعا الانتباه لهذا الاستقطاب والتحذير من توسيعه لأننا سنخرب بيوتنا بأيدينا، وستتربى أجيال حالية وقادمة على عدم “توقير المؤسسة”، أنا هنا لا أدعو الى تكميم الافواه أو تقييد حرية النقد، ولكن الحفاظ على “المؤسسة” بما تحمله من رمزية في وجداننا، وألا نرسم دورا مثاليا حالما للشباب اتجاه المؤسسة، والا فإن المستقبل بما يخبئه من تحولات قادمة قد تجعل التجرأ على المؤسسة سهلا ويسيرا.
عرفت مؤسسة المسجد، حالة من الاستقطاب والتجاذب غير المسبوق، خصوصا بعد التحولات التي تعرفها الأمة، والتي تم فيها استعادة النقاش وبقوة، حول دور المسجد ووظيفته، وذكى هذا التجاذب والنقاش السياسي بين أطياف المجتمع في جل – إن لم أقل – كل الدول الاسلامية، وخصوصا منها التي عرفت حراكا شعبيا.
وكان لهذا الاستقطاب دور في إعادة التذاكر حول “المسجد” إلا أنه يمكن أن نسجل بعض المؤاخذات على طبيعة النقاش الدائر حول مؤسسة المسجد، أولى هذه المؤاخذات:
أولا: أن النقاش في غالبه كان مستهجنا لدور ووظيفة المسجد لاعتبار أن المرجعية التي كانت تقدم حوله كانت مقاربة ومرجعية سياسية صرفة، ذلك أن السياسي هو من تعرض للنقاش، فاستهجن ودخل في حالة استقطاب حادة. وضاع النقاش ونتائجه في متاهات السياسي المرهونة بمصالح ضيقة ومحدودة الزمن والمجال أيضا..
ثانيا: إلى جانب المرجعية السياسية القاصرة لوظيفة المسجد، وجدنا أنفسنا أمام مرجعية أيديولوجية لدى أطياف لها فهم ومنهج مخالف للدولة، فكان التجاذب الايديولوجي أيضا حادا، فضاعت مؤسسة المسجد بين نقاش أيديولوجي موجه بخلفية مسبقة.
ثالثا: سيطرة الدولة على مؤسسة المسجد والنظر إليها كقطاع يجب تدبيره ويدار كباقي القطاعات الأخرى كالتعليم والاقتصاد والرياضة..مما جعل هدف الدولة هو السيطرة عليه والتحكم في أروقته وفقط، الأمر الذي جعل الوظيفة الغائية تغيب عن الدولة، وأنتج لنا مؤسسات شكلية تحت رقابة صارمة جافة (الرقابة، وحالة الإقفال، وضبط زمني حاد لا يراعي روح المؤسسة، مع ضبط مضمون خطب الجمعة والجلسات التعليمية به..).
ومنه فإن كان من عنوان لحالة المسجد، خلال أحداث الربيع العربي فهو “المسجد: في حالة الاستقطاب”.
أضف إلى هذا، فقدان مؤسسة المسجد لهيبتها وبشكل غير مسبوق في التاريخ، فمشاهد المساجد المدمرة زعزعت عقيدة صورة هاته المؤسسة لدى الناس، فابتداء من مشاهد التخريب والعبث التي يتعرض لها، مرورا بجعل المساجد منطلقا وبؤرا لأغلب المسيرات والاحتجاجات ضد السلطة في العديد من دول الربيع العربي، ومكان لاستقطاب بين تيارات إسلامية مختلفة من الناحية المنهجية والفقهية، وصولا إلى مشاهد التفجير والحرق للمساجد، كل هذا زعزع قدسية المؤسسة في وجدان الناس، مما يجعل النقاش والبحث والتوصيف مهم لتوجيه الأمة لوظيفة ودور هاته المؤسسة المقدسة.
وأعتقد أن مؤسسة المسجد في خضم الربيع العربي تتنازعه محاور كل من الإسلاميين بشتى تلاوينهم (السلفيين، المتصوفة، حركات الاسلام السياسي..) والاسلاميون يعدون أهم الفاعلين الأساسيين الذين يمتلكون نظرة خاصة لوظيفة المسجد، ولهم زاوية نظر معينة لحدود علاقتهم بالمؤسسة، والفاعل الثاني هو: الدولة؛ باعتبارها المتحكم في شؤون التسيير الداخلي والخارجي له.
الاسلاميون والمسجد:
بالنظر للمنهج العام الذي يسلكه الاسلاميون لاحياء وبعث روح النهضة والتجديد في الفكر الاسلامي، نجدهم يعيديون النظر بروح تجديدية في مختلف مظاهر التدين، ومقومات الاسلام التي لحقها التراجع والركود، ومن أهم هاته المقومات التي طالها الركود والجمود، هي مؤسسة المسجد، فنرى أغلب أدبياتهم وخطبهم، ومحاضراتهم وتوجيهاتهم تؤكد على ضرورة استعادة وظائف المسجد الحقيقية التي كانت على عهد الصدر الأول من الاسلام، وتتجلى هاته الوظائف في كل من الوظيفة العلمية، الوظيفة الاجتماعية، الوظيفة التواصلية، الوظيفة القضائية، الوظيفة الجهادية.
ويعتبرون المسجد بؤرة تحقيق التغيير و موقع تعبئة الشباب وتحميسهم وتربيتهم، فكان الالتقاء والاجتماع بالمسجد أهم آلية من آليات التأطير والتربية لدى أغلب الاسلاميين، بل وجدنا بعض الحركات الاسلامية من كان ينظم جلساته وبعض أنشطته، والقيام بحملات تنظيف له، ومختلف الانشطة الاجتماعية والخيرية.
السلفيون يذهبون أبعد من هذا ويسعون للسيطرة على أغلب المساجد من الإمامة إلى الخطبة والأذان إلى تدبير شؤونه كاملة، وهو ما جعل الدولة تدخل في تنازع شديد بينها وبين الاسلاميين في أماكن الربيع العربي.
بالنسبة للزوايا فجلها كانت بمنأى عن تدخلات حركات الاسلام السياسي أوالسلفيين، بل كانت في صف السلطة والأنظمة، وتم تسجيل العديد من الحالات التي كانت فيه الزوايا منطلقا لمسيرات مساندة للدولة ومضادة للاحتجاجات الاجتماعية.
إن مآل مؤسسة المسجد بعد الربيع العربي أصبح مرهونا بتعقل كل التيارات والأنظمة، وإعادة الهيبة لهذه المؤسسة وعدم الزج بها في الاستقطاب الحاد، وتوقيرها بالأحرى لتظل وظيفتها المتمثلة في التجميع والتوحيد والعبادة.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=11632