500 سنة من الانحطاط في عالم اليوم

دينبريس
آراء ومواقف
دينبريسساعتين agoLast Update : الجمعة 15 نوفمبر 2024 - 12:04 مساءً
500 سنة من الانحطاط في عالم اليوم

محمد عادل زكي ـ باحث مصري
ربما عالم اليوم، وحده، هو القادر على الإجابة عن هذين السُّؤالين؛ يجيب: لا أعرف! وكيف يعرف بعد أن صار عبر خمسمئة سنة من الانحطاط لا يعرف سوى الهذيان؛ بعدما أصر على الانتحار الجماعيّ، لقد صمت فينا صوت الحياة… وغفل داخلنا ضمير الإنسان، حتَّى كاد الإنسان أن ينسى أنه إنسان؛ بعد أن فقد عبقرية مشيته المستقيمة حين ألف السجود للطغاه فزحف على بطنِه من الفاقه والجوع… أو تحوَّل إلى حشرة كافكا… إن حشرة كافكا هي التَّجسيد الرَّائع لعالم يترنح إنسانه بعد أن صارت الحياة بلا معنى وبلا هدف، وبلا مشروع حضاريّ لمستقبل آمن.

كيف يعرف عالمنا اليوم معنى الحياة والهدف منها! وقد مهَّد له دانتي حين فصل تاريخيًّا، وبمنطق أرسطو المقدَّس بين الحياة والدين، واختزل له ديكارت الإنسان إلى آلة مفكرة؛ المشاعر… الأحاسيس… العواطف… كلها صارت عمليات عقليَّة تخضع، مع التطور التكنولوجيّ، إلى القياس الدقيق على أحدث برامج بيل چيتس، ويمكن حسابها طبقًا لسعر الصرف العالميّ!

كيف يعرف عالمنا اليوم معنى الحياة والهدف منها! وقد أعلن له نيتشه أن الناس هم الَّذين أقاموا الخير والشر فابتدعوهما وما اكتشفوهما ولا أنزلا عليهما من السماء! ابتداءً من اللامعنى صار الإلحادُ إبداعًا. والدين أسطورة. والرسل مرتزقة. حتى الإلحاد صار مسخًا. ابتداءً من اللامعنى لعن فاوست كل شيء صالح على الأرض واتبع مارجريت! ابتداءً من اللامعنى واللاهدف أمسى الانسلاخ عن حضارة الإنسان حداثة، وهجر التراث الإنسانيّ المشترك تجديدًا، أما وحدة المعرفة الإنسانيَّة فقد باتت عتهًا!

كيف يعرف عالمنا اليوم معنى الحياة والهدف منها! وقد همسَ له حلَّاق أشبيليه: “إن للذهب قدرة على تفتيح مدارك الإنسان”.

كم هي عبارة مهذَّبة، مقارنةً بما صاح به كولومبس في جاميكا:”الذَّهب شيء مدهش. مَن يملكه يملك كل شيء، مَن يملكه يملك كل ما يرغب فيه، بل بالذَّهب يستطيع المرء أن يُدخل الأرواح إلى الجنَّة”. ابتداءً من اللامعنى صار الهوس العقليّ مرحًا في موسيقى “الهارد روك” و”الميتال” و”التكنو” و”الفانكي”، ولقد أمسى الخواء تجريبًا، وتدمير المعنى واللون انطباعيَّة، وإهدار الشكل والأبعاد تكعيبًا، والاختزال والتسطيح أسموه تجريدًا.

مع اللامعنى تجرَّعنا مر تراث الدين الوضعيّ… التراث الَّذي جرَّد النصوص الخلَّاقة من قوتها المتسائلة عن معنى حياتنا والهدف منها، حتَّى صرنا لا نميز بين وقت الفراغ وبين الوقت الفارغ؛ لأن تجريد تلك النصوص من قوتها تلك إنما تم في نفس اللحظة الَّتي تحوَّلت فيها من أيقونة إلى وثن… من نقطة بداية إلى خط نهاية العابر له مرتد!

ومَن كان لا يروقه قولي فلينظر إلى الخواء في الفن، وإلى الاضمحلال في الأخلاق، وإلى الفساد والفوضي في الاقتصَاد، وإلى القمع في السّياسة، وإلى التجارة بالدين،… فلينظر إلى التحلل في الرَّغبة الجماعيَّة… وإلى النَّهضة في الفرديَّة والأنانيَّة. فلينظر إلى الأحاديَّة في المعرفة، وإلى الثيوقراطيَّة في الإيمان، وإلى الهوس في الدين، وإلى الصنميَّة في الرآي… فلينظر إلى ادعاء امتلاك الحقيقة الاجتماعيَّة، ورفض الآخر من باب أنه آخر، فلينظر إلى الحروب… إلى الإبادة… إلى طمس حضارات، وإزالة ثقافات من على خريطة العالم!

حقًا، هذا هو العالم الَّذي أفرزته الخمسمئة سنة الماضيَّة. إنه العالم الَّذي شرع يرنم ترانيم هلاكه على مذبح الإله الأبطش: الرَّأسماليَّة، بقيادة كاهن معبدها: اقتصاد السُّوق، وفي هستيريا جماعيَّة أطلق خُدَّام المذبح (المرصَّع بالدولار) بخور الجنائز بعد أن تليت عليه إصحاحات من كتاب الانحطاط في معابد “وول ستريت” وفروعها في طوكيو وبرلين ونيويورك وباريس!

ها هي الآلهة اليونانيَّة العائدة في صيغة هنديَّة، تعود من جديد. إله السُّوق. إله الرأسماليَّة. إله الإمبرياليَّة.
ــــــــــــــــ
رابط صفحة الكاتب على فيسبوك
https://www.facebook.com/profile.php?id=100000258830708

Short Link

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.