13 مايو 2025 / 21:26

أعمال طه عبد الرحمن من منظور النقد الديكولونيالي

نادية عطية

سأبدأ من حيث انتهيت في المقال السابق، وسأضطر أن أعود لعبدالله العروي قبل أن أتطرق لطه عبدالرحمان.

يؤاخذ العروي على الإيديولوجيا العربية وخاصة إيديولوجيا الشيخ كما سماه ومثله بمحمد عبده وعلال الفاسي بأنها ظلت حبيسة السؤال الخطأ، لماذا تأخر المسلمون، ويس لماذا تأخر سكان مصر أو المغرب أو بلاد فارس أو العراق، وبهذا بقيت حبيسة اثبات أن التأخر غير مرتبط بالإسلام مع أن المطلوب هو الانشغال بسؤال التقدم ودخول روح العصر كما أعطى المثال مرارا بالصين أو اليابان أو بلدان أخرى وطلب بأن نقتدي بها.

هنا سأعرج على إدوارد سعيد الذي تنبه لهذه المسالة معتبرا أن مصدرها هو الغرب نفسه من خلال مؤسسة الاستشراق بحيث أن الشرق أصبح ينظر لنفسه من خلال رؤية الغرب له.

اسمحوا لي إذا أن “أفجر” الفكرة التي أود التطرق اليها وأن اقول أن طه عبد الرحمان نفسه الذي يمثل الامتداد الطبيعي للسؤال الخطأ هو منتوج غربي بامتياز وبالتالي فهذا ينفي عنه اي صفة ديكولونيالية. ففي الوقت الذي تحرر فيه العروي من عقدة النحن وظل منشغلا بسؤال التقدم وولوج العصر والحداثة، طه عبد الرحمان ظل مهووسا بحادثة معلمه الفرنسي الذي منعه من التحدث عن مقاومة الاستعمار فتوجه الى امر آخر و هو:

أولا نفي مسالة التأخر، ثانيا البحث عن التأخر لدى الغرب، وثالثا البحث عن الذات الصافية النقية والمتفوقة لإنتاج الحداثة الخاصة.

بالطبع، الخاص يؤثر و الطفولة تظل محفورة في ذاكرتنا ، لكن ليس هذا ما أقصده.

إذا كان العروي قد نشأ في حضن بيئة انتصار المد اليساري سياسيا والعقلاني فكريا مثله مثل الجابري و كانت الماركسية كخلاصة الفكر الحداثي كما يعبر العروي قد أثرت فيهما كما تأثرا بالجو العربي العام الذي كان يطمح للخروج من النكسة فظلا عقلانيين متشبثين بالعقل، فطه عبد الرحمان هو أيضا درس في الغرب وللأسف تأثر كما يقول العروي بما عايشه من تحول في الأوساط الفكرية الفرنسية من ابتعاد عن المضمون (الماركسية وما يستتبعها من مفاهيم) وعن السلوك والالتزام (الوجودية وما تحمله من معاني الأصالة والسداد) واستبدال ذلك بالأشكال الصورية (توليد الأفكار على طريقة باشلار وغيره).

طه تأثر أيضا بالمفكرين الثائرين على الليبرالية وعلى الحداثة.
طه عبد الرحمان حين يريد أن يجعل العقل المجرد في مرتبة دنيا ويقر بقصوره، ثم حين يجعل العلم عند المسلمين ثانويا وتحت وصاية العلوم الشرعية فهو يسير في نفس خط سردية رينان الاستشراقية الكولونيالية التي تقول بكره الإسلام للعلوم. طه عبد الرحمان حين يقول ان كل فلسفة أصلها ديني وأن الحداثة الغربية تنهل من القيم المسيحية فهو يردد ما قاله كارل سميث من أن الحداثة ليست سوى علمنة للقيم المسيحية.

طه عبد الرحمان حين يصف الصهيونية بالشر المطلق ويؤكد أن مقاومتها لن تكون إلا بتبني المقدس وحرمة قبلة المسجد الأقصى على اعتبار أن المقدس أعلى قيمة من الأرض، فهل يمكن أن ينكر نفس الأسطورة على الصهيونية نفسها التي تستبيح القتل والتهجير باسم وعد الرب بأرض الميعاد. الصهيونية التي هي انقلاب على قيم الانوار ومفهوم الامة السياسي وتعويضه بمفهوم الشعب العرقي الديني المختار.
لكن، صحيح أن طه عبد الرحمان هو الصيغة الإسلاموية لمناخ يميني انتعش في كل العالم ، ولبيئة عالمية منتكسة بسبب الليبرالية الجديدة والعولمة ولا أخلاقية الغرب الكولونيالي، لكنه ايضا صورة مكررة لفكر عربي اسلامي يظهر في أوقات التفكك و الهزيمة، و لا غرابة انه يستثني كلا من الغزالي الذي نشأ في عهد تفكك الدولة الإسلامية وصراعات المماليك و ابن تيمية الذي نشأ في عصر التتار و هجمتهم الشرسة على المسلمين وابن حزم ومن على شاكلتهم وهو يتهم أعلام التراث بالانحراف عن روح الإسلام النقية.

هذه ليست إدانة لطه بل فقط محاولة لتفسير سياقات الفكر الطهائي، لكن يبقى من المثير للاستغراب هو أن مفكرا يدعي البحث في أصول فكر غيره لم ينتبه لأصول فكره هو، وبينما يحاول جاهدا طرد كل فكر دخيل، فكره نفسه يسير مع موجة صعود النتشوية والكارل سميثية واللاعقلانية حتى في الغرب نفسه مما يعني أنه متشبع بتيار غربي “دخيل”.

هي مفارقة عجيبة لا يدركها طه بينما يبقى العروي المؤرخ العقلاني الذي يرجع الاشياء لأسبابها وسياقاتها ويؤمن بالتفاعل و بتأثير القوي بل وبضرورة الاستفادة من الآخر متسقا جدا مع فكره ومع نفسه ومع ما يتطلبه الواقع.
يشير جوزيف مسعد تلميذ وصديق إدوارد سعيد أن الهوية والثقافة والحضارة مفاهيم حديثة وبالتالي فالصراعات الهوياتية والثقافية والحضارية هي من صنع الغرب الكولونيالي حتى انه يتطرق في كتابه “الإسلام في الليبرالية” الى ان الغرب هو من صنع و دعم و استثمر في الإسلام السياسي بشقيه الأصولي والليبرالي.

لابد من التذكير أن إدوارد سعيد نفسه في نقده لهنتغتون ونظرية صراع الحضارات اورد ان النظرية تخدم الهيمنة الإمبريالية أكثر. وحتى إذا ما تجنبنا هذه الرؤية الاكثر تطرفا فإن ظاهرة ما يسمى بالصحوة الاسلامية ظاهرة مرتبطة بالعالم الحديث و بصدمة الاستعمار وليست ظاهرة تاتينا من الماضي. و في الحقيقة أعتقد أن العروي كان متفطنا جدا وهو يكتب منذ خمسين عاما أن نقد المثقف العربي للانوار و للليبرالية سيجرنا للوراء وها نحن نرى كيف ان إيديولوجيا الشيخ تطورت من محمد عبده إلى حسن البنا ثم سيد قطب وانتهينا بالظواهري وأسامة بلادن ولعل طه عبد الرحمان هو الصيغة الأكثر لطافة في استراتيجيا السلحفاة التي تزداد تقوقعا كلما استشعرت الخطر. قد نتفهم أن من حق الهويات المهددة بالابادة الدفاع عن نفسها، لكن المشكلة الأساسية ليست هي من المسؤول، بل ما هو الحل؟

يحق لنا أن نتساءل ماذا حقق الإسلام السياسي وهو يقدم نفسه مشروعا منقذا طوال عقود وصولا لما يسمى ثورات الربيع او حتى طوفان الأقصى، بل يحق لنا أن نتساءل هل هو حقا مشروع منقذ ام ارتكاسة؟
إن مشكلتنا الذاتية ليست هووية بل هي سؤال الخروج من وضع الهوان والإهانة ومشكلتنا مع الغرب ليست أخلاقه بل هيمنته، وفي هذه النقطة بالذات يمكن مساءلة مشروع طه عبد الرحمان.