كان موضوع التعدد في الزواج مثار نقاش وجدال وأخذ ورد منذ القرن الماضي ولا يزال، بل نرى اليوم الحديث عنه أكثر حيوية وبشكل متزايد. وهذا ما يدعونا إلى النظر فيه بمنظار عقلاني وشرعي وواقعي. وفي هذا المقال سأجتهد في ملامسة هذا الموضوع عبر المطالب الآتية:
الأصل في الزواج التفرد، والتعدد فرع عنه
إن الأصل في الزواج أن يتزوج الرجل امرأة واحدة، ومن الأدلة على ذلك:
أ- لما خلق الله سيدنا آدم، خلق له من نفسه أمَّنا حواء، فكانت له زوجا، ولم يكن له سواها بالإجماع.
ب- جمهور العلماء على أن النكاح (أي: الزواج) مندوب في الأصل،1 ويتحقق هذا الندب بمطلق الزواج، فلو اقتصر الرجل على واحدة كان قد حقق الغاية التي أراد الله تعالى من الزواج.
والقول بأن الأصل في الزواج هو التزوج بواحدة لا يتنافى مع مبدأ التعدد، ولكن يتكامل معه، فالتعدد -كما سنرى- هو حل طارئ يُلجأ إليه عند انتفاء موانعه وتوفر أسبابه وشروطه. فهو فرع عن التفرد.
مشروعية التعدد
من المعلوم من الدين بالضرورة أن التعدد مشروع، بالكتاب، كما في قوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع…الآية} [النساء:3]. وبالسنة القولية والفعلية المتواترة، فقد عدد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعدد معه الصحابة والتابعون وأتباعهم. وبالإجماع أيضا، فلا نعرف أحدا من العلماء أنكر أصل مشروعية التعدد.
والشريعة الإسلامية الغراء لا تشرع أمرا إلا لمصلحة فيه قطعية، ولا تنهى عن أمر إلا لمفسدة فيه قطعية. فالتعدد ولا شك أنه يحقق مصلحة شرعية، عرفها من عرفها وجهلها من جهلها.
التعدد حل من الحلول الاجتماعية وليس نزوة وشهوة
كي نفهم مراد الشارع من التعدد ينبغي أن نفهم مراده أصلا من الزواج، فما هي الغاية من الزواج؟ عند مراجعة نصوص الشريعة ومقاصدها يظهر أن للزواج غايات ومقاصد، على رأسها:
أ- بناء أسرة على منهاج الله تعالى، يحضر فيها السكون والمودة والرحمة، قال تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} [الروم:21]
ب- الإحصان والعفاف وتجنب السقوط في الرذيلة، ومن النصوص الدالة على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «يا معشر الشباب، من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء»2.
ج- رجاء النسل والولد، فالأبناء من أعظم غايات الزواج، وبهم يستمر نسل البشرية، ويحصل القصد الإلهي من الاستخلاف والتعمير.
من خلال هذه الأهداف وهذه المقاصد (وهي بعض من كل)، نستنبط أن الزواج وسيلة إلى هذه الغايات، فهو وسيلة وليس غاية في حد ذاته. ونحن اليوم أصبحنا ننظر إلى الزواج على أنه غاية في حد ذاته، لذلك أصبح عسيرا، وأصبح التعدد شبه مستحيل.
نأتي الآن إلى المقصد من التعدد، إذا نظرنا إلى التعدد نظرة متأنية مستصحبين المسألة التي ذكرناها في البداية من أن الأصل في الزواج التزوج بواحدة، أدركنا ان التعدد يُشرع للحاجة، وليس للتفكه والتنزه، فهو مسؤولية عظيمة وجسيمة. فالتعدد له أسبابه ودوافعه الشرعية، منها:
أ- أن يحتاج إليه الرجل احتياجا حقيقيا، كأن يكون بعيدا عن زوجته لمدة طويلة. أو أن تكون زوجته مريضة لا تطيق الوطء ونحوه من الحقوق الواجبة له مما لا يستطيع الرجل -عادة- الصبر على فقدانها. أو أن تكون الزوجة عاقرا ممن لا يلدن، فيعدد جلبا لهذه المصالح الشرعية.
ب- أو أن يكون التعدد حلا من حلول المشاكل الاجتماعية، كأن يكون النساء أكثر من الرجال، فيُشرع التعدد من أجل أن يحصن جميع بنات المسلمين. ولكن هذا الحاجة تقدر بقدرها.
شروط التعدد وموانعه
إن التعدد لا يُباح ولا يُشرع إلا إذا توفرت شروطه وانتفت موانعه، وأهم شروطه:
1- العدل بين الزوجات في النفقة وفي القسمة وفي المبيت وفي الزيارة… فكل ما يستطيعه الرجل ويدخل تحت قدرته لا بد وأن يعدل فيه، أما ما لا طاقة له به كالحب والميول القلبي ونحوه، فأمره إلى الله.
وقد شرط الله تعالى التعدد في الآية بالعدل، فإذا انتفى العدل مُنع التعدد. قال تعالى في نفس الآية: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة}. أما قوله تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} [النساء:129]، فالمقصود به العدل في الميول القلبي، وهو فوق طاقة الإنسان، فلو كان شرطا في التعدد لمنع البتة ولم يشرع أصلا؛ لأنه ولا بد أن يكون الميول القلبي لزوجة أكثر من أخرى، كما يكون الميل لولد أكثر من باقي الأبناء، فهذه غريزة إلهية لا يُلام عليها الإنسان.3
وقد كان عليه السلام يعدل في الأمور المادية، ثم يسأل الله تعالى العفو في الأمور القلبية. فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه، فيعدل. قال عفان: ويقول: “هذه قسمتي” ثم يقول: “اللهم هذا فعلي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك”»4.
وقد ثبت أنه عليه السلام كان يحب خديجة رضي الله عنها أكثر من جميع نسائه، ثم كان يفضل بعدها عائشة على باقي نسائه،5 دون أن يكون لهذا الحب أو لهذا التفضيل تأثير في الأمور الواجبة عليه تجاه باقي زوجاته رضي الله عنهن.
2- أن يكون التعدد له دواعيه وأسبابه المذكورة آنفا. فلو كان التعدد لمجرد التفكه والاستمتاع، فهل يكون جائزا أو ممنوعا؟ المسألة فيها نقاش. ولكن بالنظر إلى غايات الزواج نجد الشارع قد ركز على غايات أسمى من الاستمتاع، وإن كان الاستمتاع إحدى هذه الغايات.
3- أن لا يكون عقد النكاح قد بُني على شرط عدم التعدد، فإذا اشترطته الزوجة على زوجها قبل العقد، ورضي به الزوج، وكان شرطا في العقد، وجب على الزوج الوفاء به، ويحرم عليه مخالفته، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه البخاري وغيره: «المسلمون عند شروطهم»6.
4- أن يكون الزوج قادرا على التعدد بدنيا وماليا؛ لأن أي زوجة لها حقوق على زوجها يجب عليه أن يقوم بها. ومن لوازم القدرة البدنية أن يكون قادرا قدرة كاملة على المعاشرة ونحوها. أما القدرة المالية فالحد الأدنى فيها أن يستطيع توفير الضروريات والحاجيات لجميع زوجاته بالتساوي.
فإذا توفرت هذه الشروط وانتفت الموانع، فمن حق الرجل أن يعدد، وليس من حق المرأة أن تمنعه البتة، إلا أن تراضيه وتسايسه! لأن التعدد إذا كان حقا للرجل فإن المرأة لا يجوز لها ان تمنعه. ولا عبرة بغيرة المرأة في هذا المجال؛ لأن أي امرأة تغار من ضرّتها، ولا تحب أن يتزوج عليها زوجها، فلو أُخذ رأي النساء في هذا الأمر لما تزوج رجل البتة، حتى النبي والصحابة وغيرهم. فهذه فكرة مهمة ينبغي التأمل فيها.
وكتب الحديث والسيرة تخبرنا بالغيرة التي كانت تشتعل في قلوب بعض نساء النبي من الأخريات، وقصص عائشة وحفصة وأم سلمة ومارية القبطية رضي الله عنهن، قصص معروفة في كتب التفاسير وغيرها.7
وقفة تأملية مع التعدد في واقعنا
إذا ما ربطنا هذه الأحكام الشرعية بواقعنا، وأتينا إليه نفحصه، نجده بعيدا كل البعد عن هذه الأحكام، إلا القليل القليل ممن يراعيها في التعدد. وعلى العموم فإن المجتمع المغربي ينظر إلى التعدد بنظرة ناقصة، خصوصا من المرأة، وهذا أمر عادي؛ لأن المرأة لم تكن يوما من الأيام تجيز للرجل التعدد عن طيب خاطر، ولذلك لم يجعل الشاعر التعدد من حقوق المرأة، وإنما طلب من الرجل استرضاءها في ذلك.
هناك تيار من المسلمين اليوم يظن أن التعدد سنة، وهذا طبعا فهم خاطئ، فلا نعلم أن أحدا من علماء الأمة قال إن التعدد سنة، بل الزواج هو السنة، وقد نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»8.
فسنة النبي تكمن في الزواج، وليس في شرط التعدد. فإذا كان الإنسان قادرا على التعدد واستوفت فيه الشروط المذكورة، فله أن يعدد ويكون أيضا متبعا للسنة ولا شك.
ينبغي على مجتمعنا أن يغير نظرته إلى الزواج، فهو وسيلة لغايات، وليس هو غاية في ذاته، وهذه النظرة هي التي ربطت كل التعقيدات بالزواج، حتى أصبح الزواج بالواحدة من أعسر الأمور بلْه بأكثر من واحدة. وأصبحت المطلقة يُنظر إليها نظرة حقيرة، بعدما كانت في الماضي من أكثر النساء حظا في الزواج؛ كانت بمجرد أن تخرج من عدة الطلاق يتهافت عليها الخطاب. فنظرتنا للزواج ينبغي أن تتغير حتى يصبح ميسرا، ومعه ستتغير النظرة إلى التعدد أيضا.
وطالما أن هذه النظرة لم تتبدل، فإن التعدد فيه خطورة كبيرة، خاصة في بلدنا المغرب، الذي يُصنف كثاني بلد إسلامي بعد لبنان من حيث قلة التعدد.
وخلاصة الأمر: أن التعدد في الأصل مشروع، وهو استثناء من الأصل الذي هو التفرد في الزواج، فإذا توفرت شروطه كان جائزا اللجوء إليه، وهو من حق الرجل ولا دخل للمرأة فيه طالما أنه قادر على الوفاء بشروطه. فلا يمكن أن نجيز التعدد بإطلاق ولا يمكن أن نمنعه بإطلاق، بل لا بد من التفصيل.
—————
الهوامش:
1 – يُنظر: المقدمات الممهدات لابن رشد الجد، تحقيق محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى: 1408 هــ – 1988 م. (1/451).
– المعونة على مذهب عالم المدينة، أبو محمد عبد الوهاب بن علي البغدادي، تحقيق: محمد حسن إسماعيل الشافعي، دار الكتب العلمية بيروت – لبنان، الطبعة الأولى: 1418هـ. (1/473).
2 – صحيح البخاري، (3/7). تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة الطبعة الأولى (1422هـ).
3 – يُنظر تفسير القرطبي لهذه الآية الكريمة.
4 – يُنظر: مسند أحمد بن حنبل، (42/46). تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1421 هـ – 2001 م.
5 – صحيح البخاري، (5/166).
6 – يُنظر: صحيح البخاري، (3/92).
7 – يُنظر تفسير أوائل سورة التحريم في أي كتاب من كتب التفسير.
8 – صحيح البخاري، (7/2).
{jathumbnail off}
Source : https://dinpresse.net/?p=1380