ترأس أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس، مرفوقا بصاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير مولاي الحسن وصاحب السمو الملكي الأمير مولاي رشيد، يومه الاثنين، 22 يونيو 2015، بالقصر الملكي بالرباط، الدرس الثاني من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية.
وألقى الدرس الثاني الأستاذ عبد الحق كيدردوني، عالم في الفيزياء الفلكية ومدير المرصد الفلكي بمدينة ليون، والذي تناول فيه بالدرس والتحليل موضوع “تجلي عظمة الخالق في نظام الخلق” انطلاقا من قول الله تعالى: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب. الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار).
واستهل كيدردوني هذا الدرس بالتأكيد على أن هدي الإسلام جاء للقطع مع ممارسات الجاهلية الباطلة التي تظن بأن الظواهر الكونية مرتبطة فيما بينها بروابط سحرية، موضحا أنه على النقيض من ذلك، يعلمنا القرآن الكريم أن الظواهر لها نسبة إلى الله وحده وتنبئنا عنه.
وأبرز المحاضر في هذا الصدد، أن النظر في الكون هو استجابة للأمر الإلهي بالتفكر في الخليقة باعتباره مجلى آيات الخالق وفق الأمر الإلهي “قل، سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق” (العنكبوت، 19).
وأشار إلى أن “الأسماء الحسنى ” التي سمى بها الله تعالى نفسه في القرآن “هي بمثابة علاقات نسب بينه وبين العالم تتيح لنا أن نعرفه ونتعرف على أنفسنا في ذات الوقت “، مؤكدا أنه ” بمعرفتنا لله الخالق، نعرف أننا لسنا كلنا سوى مخلوقات يتوقف وجودها بالكلية على الفعل الإلهي للخلق”.
وأضاف أن الله تعالى أعلمنا في القرآن الكريم أنه أوجد المخلوقات من عدم وأن الله يجدد الخلق على الدوام وأنه هو المبدئ والمعيد، موضحا أنه يفهم هذا التوكيد بحسب ثلاثة أوجه، أولها أن الله يعد الناس بخلق جديد في الدار الآخرة، وثانيا أن الله تعالى يستمر في خلقه لأنه ما يفتأ يظهر مخلوقات جديدة، وأخيرا فالله تعالى يستمر في إمداد الخلق وجوده. وأشار في هذا الصدد إلى أن الله يفعل ذلك باسمه الصمد، أي الأساس المتين الذي يرفع عليه الكل.
وبعدما أشار إلى أن القرآن الكريم يذكر بأن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام، أوضح المحاضر أن الرعيل الأول من المفسرين تساءلوا عن مدة الستة أيام، مؤكدا أن الله القادر على خلق العالم دفعة واحدة قد اختار أن يخلقه شيئا فشيئا في الزمان، وهو زمن لا وجود له إلا بالنسبة إلينا.
وتابع في نفس السياق، أن “الكل موجود في علم الله سلفا. لكن الأشياء تظهر بالنسبة إلينا في حدوث وتتابع”،موضحا أن الله تعالى لا يخلق العالم بطريقة ميكانيكية، بل يخلق العالم ليكون مجلى لآياته وتتجلى فيه عظمته وجماله، ويخلق العالم ليكلم عباده من أجل أن يعبدوه ويعرفوه.
فكل مظهر من مظاهر الوجود يقودنا إذن – يضيف المحاضر – إلى الله الذي خلقه، موضحا أن الانتظامات في الخلق التي نلاحظها: حركة القمر والكواكب، وانعكاسات النور وانكساراته، والتركيبات الكيميائية للأجسام فيما بينها، تحكمها كلها تصرفات قارة أو انتظامات شمولية.
وبعدما أكد أن هذه الانتظامات هي تجل لسنة الله في الكون، أوضح المحاضر أن هذه الانتظامات لا تعني غياب التغير في المخلوقات، بل بالعكس هذا يدل على أن القواعد التي تحكم هذه التبدلات يحددها الخالق، وأن تحديده يعكس حكمته ودوامه فيما كتبه على خلقه.
وأوضح الأستاذ عبد الحق كيدردوني أن علماء المسلمين يتأملون بالعقل العلامات الإلهية في العالم، هذا العقل الذي يتوسل بالتدبر والتفكير ويتيح الإحاطة بالحد الذي يؤول إليه التفكر، مبرزا أن هؤلاء العلماء، إن شئنا، هم الذين يستجيبون للأمر الإلهي، ناظرين للأشياء مليا مرتين. وهم القادرون في نهاية اكتشافاتهم أن يقفوا على الحكمة والقوة الإلهية، وعلى عجزنا الإنساني عن فهم علو وعمق الخلق. “فكل آيات الله نجد معناها في أفق التوحيد بالنسبة إليهم”.
كما توقف المحاضر عند الاهتمام الذي أبداه العالم الإسلامي بالعلم ابتداء من القرن الثاني الهجري، والذي ينبغي أن يعتبر أحد الأحداث البالغة الأهمية في تاريخ الإنسانية، موضحا أن أغلب النصوص العلمية المتاحة في ذلك الزمان ترجمت إلى العربية في صدر الخلافة العباسية.
وفي هذا السياق، أبرز أن العلماء العرب المسلمين لم يكونوا مجرد مترجمين فقط، بل كانوا يمحصون ويصححون المخطوطات التي كانوا يترجمونها، وجعلوا من اللغة العربية اللغة العلمية العالمية الأولى، وذلك بابتكار المصطلحات لترجمة الألفاظ العلمية من اليونانية، وبإحداث كلمات جديدة تعرب عن المفاهيم الجديدة.
وبعد طور الترجمات – يضيف المحاضر – فهم العلماء العرب المسلمون أهمية الملاحظة والتجريب ما دام الأمر يتعلق بالوقوف على سنة الله في العالم، فاجتهدوا في تحسين نتائج ملاحظاتهم، خاصة في علم الفلك. كما طوروا أدوات رياضية جديدة لوصف العالم. وانكبوا كذلك على تصنيف فهارس، فوضعوا أسماء للنجوم، وأحصوا النباتات والحيوانات والأحجار والأمراض.
ومن ناحية أخرى، اعتبر مدير المرصد الفلكي بمدينة ليون أن العلم يتيح لنا اليوم أن نقوي إيماننا بالخلق أكثر، ويقترح علينا أن نتأمل مشهدا رائعا. فالعالم يظهر لنا أكثر شساعة في الفضاء وقدما في الزمان مما توقعه العلم قبل قرون.
ويرى المحاضر أن “إدراكنا قادر على فهم كيفية تكوين المجرات والنجوم وفق قوانين الفيزياء التي تمثل طريقتنا الإنسانية في وصف بعض انتظامات سنة الله “، مضيفا أن الأمر الأعوص فهما على العلماء في العالم الآن هو أن يكون العالم مفهوما”.
وأوضح أن كل تأمل في عظمة الله يؤول إلى إقرار بالعجز عن إدراك الصنع الإلهي الذي لا ينتهي، مبرزا أن العالم الحقيقي هو ذاك الذي يحسن قول ” لا أدري ” بعدما يستنفذ كل قدرات عقله.
وخلص إلى أنه يجب على المؤمن أن يتجاوز مظاهر الأشياء ليدرك أن هذا الكون الشاسع ليس سوى مرتبة من مراتب الخلق، وأن هذا الخلق هو أكبر بكثير مما نتصور، مبرزا أن المذاهب الروحية في الإسلام تعلمنا أن عالم الفضاء والزمان والمادة والطاقة، على عظمه وقدمه، لا يمثل سوى مرتبة من مراتب الوجود، وأن الحقائق الروحية التي لا تخضع لقوانين الفضاء والزمان والمادة والطاقة هي أوسع من ذلك بكثير.
وأكد أنه في نهاية المطاف، ليس هناك خلاف بين نتائج العلم وتعاليم الدين، فالعلم يساعدنا على اكتشاف العالم، والدين يجعلنا ندرك أن العالم هو مجلى لآيات الله، لافتا إلى أن القرآن الكريم يذكرنا، حين يحثنا على فهم الكون، أن وظيفتنا هي معرفة الله عن طريق العبادة ويعلمنا ما لم نكن نعرفه بشأن الدار الآخرة.
كما يحثنا القرآن الكريم – بحسب المحاضر – على اكتشاف العالم ” وفي نفس الوقت يأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام كي نطهر قلوبنا. هو يهيئنا إلى الخلق الجديد عند البعث وإلى الدخول إلى العالم الآخر”.
ولذلك – يضيف الأستاذ عبد الحق كيدردوني – فإن كل تفكر في العالم، كما ورد في آيات القرآن الكريم، ينبغي أن يوصلنا إلى هذا الإقرار “ربنا ما خلقت هذا باطلا “، وإلى هذا الدعاء “فقنا عذاب النار”.
وختم المحاضر درسه بالتأكيد على أن الشكر لله من أجل الخلق يجب أن يكتمل بالشكر له لأنه أنزل القرآن الكريم الذي يمنح فيه الذي خلق الخلق معنى ومغزى خلقه: أن يتيح للإنسان أن يعبد الله من أجل معرفة آياته في العالم وانتظار معرفة آياته في الدار الآخرة.
وبعد نهاية الدرس الثاني من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية، تقدم للسلام على أمير المؤمنين، الأستاذ رافع بن عاشور، المفكر والحقوقي التونسي، والأستاذ عمار جمعي الطالبي، نائب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والأستاذ محمد المختار ولد أباه، رئيس جامعة شنقيط الإسلامية بموريتانيا، والأستاذ أبو بكر فوفانا، رئيس المجلس الأعلى للأئمة بالكوت ديفوار والأستاذ الحاج عثمان زنايدو، أستاذ بجامعة نيامي من النيجر، والأستاذ جمال أبو الهنود، مستشار وزير الأوقاف والشؤون الدينية بفلسطين، والأستاذ فانسو محمد جامي، رئيس مؤسسة الملك محمد السادس للسلام بغامبيا، والأستاذ محمد ديكو دبيرت، مسؤول إدارة الدعوة بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالغابون.
وقدم وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السيد أحمد التوفيق لأمير المؤمنين جلالة الملك المصحف المحمدي المرتل. وقد سجل هذا المصحف بصوت القارئ السيد توفيق النوري من مدينة فاس، برواية ورش عن نافع من طريق أبي يعقوب الأزرق، وتم إخراجه على الأقراص المضغوطة الصوتية وعلى القرص المضغوط بصيغة “إم بي 3”.
Source : https://dinpresse.net/?p=3897