الحمد لله القائل في محكم التنزيل [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] والصلاة والسلام على هادي البشرية ومعلمها القائل في سنته الغراء (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً).
وبعد.. فليعلم المسلم وغير المسلم أن الإسلام بمبادئه السامية وتشريعاته العادلة وأنظمته المحكمة وتوجيهاته الصادقة حقق للمجتمع أرقى صور التكافل بمفهومه الشامل .. ومن العجيب أن بعض المجتمعات الغربية تفتخر أنها حققت نوعاً من أنواع التكافل وهو التكافل المعيشي وقد نسوا أو تناسوا أن الإسلام حقق التكافل بكل صوره وأشكاله ونصوص الكتاب والسنة تؤكد هذا المفهوم وتعمقه.
إن المقصود بالتكافل الاجتماعي هو أن يكون أفراد المجتمع مشاركين في المحافظة على المصالح العامة والخاصة ببلدهم ودفع المفاسد والأضرار المادية والمعنوية، بحيث يشعر كل فرد فيه أنه إلى جانب الحقوق التي له؛ أن عليه واجبات للآخرين وخاصة الذين ليس باستطاعتهم أن يحققوا حاجاتهم الخاصة وذلك بإيصال المنافع إليهم ودفع الأضرار عنهم وفقا للمنصوص عليه شرعا وقانونا.
ويقوم التكافل الاجتماعي في الإسلام، على بناء فكري متكامل، له أساسه من العقيدة، ومن المنظومة الأخلاقية الإسلامية، فلم يكن تقرير هذا الحق للإنسان وليد تجارب بشرية فرضته فرضا، كما هو الشأن في نظم الضمان الاجتماعي التي تسود العالم الحديث. فهو يمثل فكرة متقدمة، تتجاوز مجرد التعاون بين الناس، أو تقديم أوجه المساعدة وقت الضعف والحاجة إلى تنظيم هذا المجال والتعبئة العامة إليه، مثل ما تقوم به مؤسسات رسمية مثل “مؤسسة محمد الخامس للتضامن” والتي أحدثت تحت الرئاسة الفعلية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس سنة 1999، وهي مؤسسة ذات منفعة عمومية، أنشئت بمقتضى المرسوم الصادر في 21 ربيع الأول 1420 موافق 05 يوليو 1999 م؛ وتساهم المؤسسة بمعية فاعلين جمعويين وآخرين، في محاربة الفقر وفقا لمبدأ التكافل في الإسلام، سيما وأن دستور المملكة المغربية جاء معززاً لمكانة الهوية الإسلامية من خلال ديباجته التي نصت على أن: “المملكة المغربية دولة إسلامية”، وأن: “الهوية المغربية تتميز بتبوُّء الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها”.
ومبنى التكافل الاجتماعي ليس الحاجة الاجتماعية التي تفرض نفسها في وقت معين أو مكان بعينه، وإنما مبناه من مبدأ مقرر في الشريعة بعد الولاية لأمير المؤمنين، وهو مبدأ الولاية المتبادلة بين المؤمنين في المجتمع، يقول الله تعالى: “وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” (سورة التوبة، الآية 71) .
فالإنسان في التصور الإسلامي، لا يعيش مستقلا بنفسه، منعزلا عن غيره، وإنما يتبادل مع أفراد المجتمع الآخرين الولاية، بما تعنيه من المساندة والتكافل في أمور الحياة، وفي شؤون المجتمع؛
مما يعني التزام القادر من أفراد المجتمع تجاه أفراده، قال تعالى في وصف المؤمنين الصالحين “وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” (سورة الحشر).
وعَنْ أَبي سَعِيدِ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفر مَعَ اَلنبِيِّ ، صلى الله عليه وسلم ، إِذْ جَاءَ رَجُل عَلَى رَاحِلَة لَهُ ، قَالَ : فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينأ وَشِمَالاً ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْل مِن زَاد فَليَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ زَادَ لَهُ، قَالَ: فَذَكَرَ مِن أَصْنَافِ اَلْمَالِ مَا ذَكَر، حَتُّى رَأَيْنَا أَنَهُ لاحق لأَحَدٍ منا فِي فَضْل. أخرجه أحمد 3/34(11313) و”مسلم” 5/138(4538) و”أبو داود”1663 .
وقد بين الرسول – صلى الله عليه وسلم – مسؤولية المجتمع عن كل فرد محتاج فيه، في عبارة قوية في إنذارها للفرد والمجتمع : «ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه » رواه البخاري في الأدب المفرد.
وتظهر الزكاة التي هي أحد أركان الإسلام،وفريضته الاجتماعية، أول صور التكافل الاجتماعي في الإسلام، وهي فريضة على كل مسلم، وحق مقدر بتقدير الشارع الحكيم في المال بشروط معينة، وهي تدل على معنى أخص من الصدقة التي لا تتحدد بمال معين أو قدر بذاته .
فالصدقة متروكة لاختيار الأفراد في قدرها، وفيمن توجه إليه من المحتاجين، وذلك على خلاف الزكاة التي فرضها الله في أنواع المال التي حددها الشارع ، وبين نصاب كل نوع ، ومقدار الزكاة فيه.
ومن صور التكافل الاجتماعي في الإسلام ، ما شرعه الله من وجوب نفقة القريب الغني على الأقارب الفقراء، فنفقة الزوج على الزوجة ، والأب على الأبناء ، ونفقة الولد القادر على الوالدين الفقيرين….، وقد وسع بعض علماء المسلمين في شأن نفقة الأقارب، حتى تصل إلى ذوي الأرحام .
ولا يقتصر التكافل الاجتماعي في الإسلام، على الجوانب المادية فحسب، بل يمتد إلى ما يعد تعاونا شاملا على البر؛ قال تعالى: “وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ” (سورة المائدة).
فالمسلمون متآلفون متعاونون، يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم.
ولا تتوقف الشريعة الإسلامية بمساعدة الفقراء عند الضمان الاجتماعي فحسب ، بل تتعدى في نظرتها الشمولية إلى التكافل العام بين جميع أفراد المجتمع الإنساني ، الذي ينبغي أن يقوم على مبدأين هما
:الأول : مبدأ كفالة الأفراد بعضهم البعض كفاية ، وهذا المبدأ لا يمكن تجزئته أو فصله عن بقية أحكام الإسلام التي تفرض على المكلفين ضرائب وغرامات مالية أو عينية يرد أغلبها إلى الفقراء، خصوصاً القاصرين والعاجزين.
الثاني : مبدأ الاخوة الذي يعتبره الإسلام حجر الأساس في بناء العلاقات الاجتماعية النظيفة . وقد أشارت الأحكام الشرعية الإسلامية في أكثر من موضع إلي ضرورة التحسس لآلام الآخرين وأهمية مشاركة الأفراد شعورهم الإنساني من أفراح وأقراح . وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله : “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”.
فالمصائب الجماعية أخف ثقلاً على كاهل الفرد من تلك التي ينوء بحملها الإنسان منفرداً دون صديق أو حميم .
والخلاصة أن التكافل الاجتماعي في الإسلام ليس معنيا به المسلمين المنتمين إلى الأمة المسلمة فقط بل يشمل كل بني الإنسان على اختلاف مللهم واعتقاداتهم داخل ذلك المجتمع كما قال الله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم). ذلك أن أساس التكافل هو كرامة الإنسان؛ قال الله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا).
*د/ عبد المجيد حضري
باحث في الفكر المقاصدي
Hadri2014@outlook.com
المصدر : https://dinpresse.net/?p=3578