في العاصمة الأردنية عمان صدرت الطّبعة الأولى من كتاب”رحلتي مع جامعة الكوفة” للأستاذ الدّكتور عبد الرّزاق عبد الجليل العيسى. وقد وقع الكتاب في 416 صفحة ملوّنة من القطع الكبير. وتكوّن الكتاب من ستة فصول وأربعة ملاحق, وقد عُقدت هذه الفصول والملاحق تحت عناوين: الفصل الأوّل “البداية والمسيرة”، الفصل الثّاني “مواقف لا تنسى”، الفصل الثّالث “استراتيجيّة إدارة الجامعة”، الفصل الرّابع “مسيرة الجامعة وتطوّرها”، الفصل الخامس”بعض مظاهر التّميّز في جامعة الكوفة”، الفص السادس “استقلاليّة الجامعة والتّحدّيات”، الملحق الأوّل “رحلتي مع جامعة الكوفة في صور”، الملحق الثّاني “رحلتي مع إعمار الجامعة في صور”، الملحق الثالث “أصداء وتغطيات إعلاميّة لرحلتي مع جامعة الكوفة”، الملحق الرّابع “رحلتي مع جامعة الكوفة في عيون من عاصروني”.
والدّكتور العيسى الذي يشغل الآن منصب المستشار الثّقافي العراقيّ في الأردن كان قد شغل عدّة مناصب مرموقة في خدمة العراق، منها منصب المستشار الثّقافيّ العراقيّ في لندن، ورئيس جامعة الكوفة العراقيّة لست سنوات، وغيرها من المناصب الأخرى، كما أنّه حصل على عدّة ألقاب علميّة وتربويّة وأكاديميّة رفيعة، منها: لقب أفضل رئيس جامعة في العراق للعام 2010، ولقب الأستاذ المتميّز علميّاً والمعروف عالميّاً للأعوام2008 و2009، فضلاً عن حصوله على عشرات الجوائز والتّكريمات والدّروع. وعضويّة المجالس والأنديّة والمؤسّسات والمجلات والمنتديات الفكريّة والعلمّية والتّربويّة والبحثيّة، إلى جانب مشاركته في عدد كبير من المؤتمرات والنّدوات وورش العمل والمبادرات، ونشره الأبحاث العلميّة الرّصينة باللغة العربيّة والإنجليزيّة ومشاركته في الأعمال الخيريّة والخدمة المجتمعيّة، والإشراف على الأطاريح والرسائل العلميّة والمؤتمرات والمبادرات والأبحاث العلميّة والمنشورات الأكاديميّة والعلميّة والإعلاميّة التّربويّة.
وقد صدّر الدّكتور العيسى كتابه بقوله: “لم يكن حلمي ومشروع حياتي أن أدير مؤسّسة حكوميّة ما، أو أن أتبوّأ مركزاً رفيعاً في الدّولة؛ فهذه ليست أحلام رجل يبغي الخلود، وحفر اسمه في سِفْر التّاريخ والحضارة والعلم، إنّما كان حلمي أن يكون علمي وعملي حجّة لي بين يدي ربّي، وأن تكون لي يدٌ بيضاء طاهرة على أبناء وطني، وأن أشارك مشاركة مخلصة في بناء الإنسان العراقيّ عبر مشروعي التّربويّ والتّنمويّ في التّنميّة البشريّة.وهذا لا يكون إلاّ بالعلم؛ فوحده الذي يخلق الإنسان، ويصنع الحضارة، ويبني المجد، ويكتب اسم الوطن بماء الخلود”.
هذا الكتاب يقول صراحة ليس هناك خلود في سِفْر البشريّة دون التّقيد بشرطه الأزليّ، وهو العطاء بهدف خدمة الإنسانيّة وبناء معمار البشريّة ودفعها نحو مدارج الحضارة والمدنيّة والرّقيّ والإبداع والإخلاص في إيثار الآخر على الذّات وتقديم الجماعة والأمّة على الفرديّة والمصلحة والمكسب الشّخصيّ، ولما كان العطاء وفق هذه المعطيات صعباً ونادراً، ولا يتقنه إلاّ قلّة من البشر، كان الخلود نادراً عزيزاً لا يدركه إلاّ صفوة البشر ونخبة من أنجبت الإنسانيّة من أبنائها الرّواد.
وعندما تغدو حياة إنسانٍ ما رجلاً كان أم امرأة رحلة عطاء فإنّه دون شكّ يكون إنساناً قد قرّر بإصرار وعزم أن يحفر اسمه في مسلّة الخلود، ورام دون انقطاع أو كلل أو توانٍ أن يضع لبنة مهمّة في معمار المنجز الإنسانيّ، ومن يرافق الدّكتور عبد الرّزاق عبد الجليل العيسى في كتابه “رحلتي مع جامعة الكوفة” يدرك أنّ درب الخلود صعب، وأنّ الإنسان عندما يحمل نبراس العلم والإصلاح والبناء عليه أن يقدّم نظير ذلك تضحيّات عملاقة من عمره وراحته وسعادته وأحلامه وأفراحه الشّخصيّة ومكاسبه الذّاتيّة، ويخلص في نهاية المطاف إلى أنّ رحلة الحضارة هي رحلة الخلود.
هذا هو الشّعور الذي رافقني منذ بدأتُ رحلة المراجعة اللّغويّة لهذا الكتاب، وقد خلتُ أنّ الأمر هينٌ سهل المنال، ولكّنني وجدتُ نفسي أحار ماذا عليّ أن أكتبَ عن كتاب هو رحلة إنسان نحو الخلود والبقاء وانتصار الزّمن على الفناء كما هو انتصار المنجز على الجغرافيا والتّحدّيات والتّابوات والمعيقات وأعداء الإصلاح والإبداع والإنسان والوطن والخير والنّماء لكّنني انتصرتُ على حيرتي هذه عندما رأيتُ أنّ الكتابة عن الخالدين والخلود هي ضربٌ من المتعة والتّطهّر من أدران الواقع المدنّس بالعابثين والمفسدين والخائنين.
لا أستطيع أن أدّعي الحياديّة والموضوعيّة وأنا أكتبُ كلماتي هذه، إنّما أشعر بانحياز مشرّف تجاه رحلة الدّكتور العيسى التي لا يملك الإنسان إلاّ أن ينظر إليها بإكبار وتقدير وإجلال وهو يواكب تفاصيلها، ويعايش محنها، ويشهد منجزاتها ومفاخرها، أنا بحقّ أشعرُ بالفخر والاعتزاز وأنا أقدّم لكتاب هو في واقع الحال أنموذج لمسيرة تستحقّ الاحتذاء والتّكرار بل وتعليمها لمن أراد أن يسير على منوال البناء، وأراد أن يخوض تجربة بناء جامعة رياديّة تضطلع بدورها التّربويّ والتّعليميّ والحضاريّ والوطنيّ والإنسانيّ بل والأخلاقيّ.
ومن هذه النّقطة بالتّحديد تبدأ أهميّة الكتاب؛ فهذا الكتاب ليس مجرّد سيرة ذاتيّة لمنجِزٍ مُقدّر، وليس بطبيعة الحال مذكّرات غافية في النّسيان، بل هو يشكّل علامة وحالة نادرة في تاريخ العمل الجّامعيّ والإدارة الجامعيّة، كما يعدّ منهجاً في البناء، ونستطيع أن نقول إنّه الكتاب الأوّل من نوعه- في حدود علمي ومطالعاتي ومعرفتي- الذي يقدّمه رئيس جامعة عربيّة حول تجربة قيادة جامعة عربيّة، والانتقال بها من مجرّد جامعة بكليّات متناثرة في الأحياء السّكنيّة لمدنية النّجف وبعدد مبانٍ لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة ومساحات أرض فارغة وآمال مهدورة ومبانٍ غير كافية أو مناسبة وكوادر غير مدرّبة إلى جامعة رياديّة تحصد المرتبة الأولى على مستوى الجّامعات العراقيّة، كما تحصّل أرفع المراتب بين الجامعات العربيّة إلى جانب تحقيق مراتب متقدّمة ومشرّفة في كثير من التّصنيفات والتّقييمات العالميّة.
فنحن لم نشهد من قبل رئيس جامعة عربيّة يقرّر أن يكرّس وقته صادقاً لأجل أن يضع تجربته كاملة بين يدي من يرغب في الاستفادة منها؛ فطالما اعتدنا على أن ترحل التّجربة مع رحيل صاحبها، وتهدم المسيرة بعد إبعاد قائدها، ولذلك لقلّما شهدنا العمل المؤسّسيّ في مجتمعاتنا العربيّة التي تهوى أن تهدم ما بناه غيرها، لتبدأ من الصّفر من جديد، بدل أن تكمل المسيرة بعد من بدأها، ولذلك لا نراوح مكاننا في مدارج الحضارة، في حين يجري الآخرون في مدارجها بخطىً عملاقة، ويتركوننا خلفهم أمّة تتغنّى بمجدها البائد، وتقف على أطلال عظمائها ومآثرها، وتبكي على واقع حالها.
ولكن الدّكتور العيسى صمّم على أن يكون حالة خاصّة في مفهوم العطاء والتّعليم والتّغذية الرّاجعة والمشاركة بالتّعلم وتبادل الخبرات وتعميم التّجربة الإنسانيّة ومشاركة خطط النّجاح وإشهار ملامح الفشل وهنات التّقصير لأجل القضاء عليها في الخطط المستقبليّة، ولذلك قام بكلّ جرأة وتفانٍ وصدقٍ برصد تجربته في بناء جامعة الكوفة بكلّ ما فيها من ملامح ومنجزات وتحدّيات، وقدّم لنا كتاباً سحريّاً يمكن أن نسمّيه “كيف تبني جامعة ناجحة؟”. فهذا الكتاب يصلح أن يكون درساً استراتيجيّاً لكلّ من بغى أن يبني مؤسّسة تعليميّة، وأن يستثمر الإنسان والأرض والتّاريخ والجغرافيا والعلم والمعطيات لأجل الرّهان على مستقبل مزهر عبر بناء الإنسان واستثماره.
والطّريف في هذا الكتاب أنّ مؤلّفه تكلّم فيه بكلّ صراحة ووضوح وشفافيّة، وباح بتفاصيل تجربته كلّها دون انتقاء أو إقصاء، بل اعترف بمواطن النّجاح والفشل، وقيّم التّجارب والمراحل، وفصّل في الأسباب والمعطيات، وحلّل الظّروف والأفعال، وقدّم لنا صورة كاملة وصادقة للمشهد الجامعيّ في جامعة الكوفة بسلبياته وإيجابياته كلّها دون تكتّم أو إخفاء أو تجميل.
أستطيعُ القول إنّنا في حاجة إلى مبادرات مشابهة من المبدعين والبناة والمربّين والقياديين لأجل تزويد النّشء بخطط ودروس ومناهج واتّجاهات ومبادرات تفيدهم في بناء منجزهم الحضاريّ، وتعفيهم من التّخبّط والوقوع في الأخطاء التي وقع فيها من قبلهم؛فتراكم الخبرات وتبادلها –كما هو معلوم- ليست قيماً تاريخيّة وحسب، بل هي أرثٌ إنسانيّ في ضروب النّجاح، وخارطة طريق للبشريّة كي لا تكرّر أخطاء السّالفين، وتعويذة إنجاز وحظّ للعاملين.
Source : https://dinpresse.net/?p=3510