في كتابه الجديد والصادر حديثا عن مطبعة infoprint تحت عنوان: “الفكر المقاصدي عند أبي الوليد ابن رشد القرطبي (520هـ) من خلال كتابه البيان والتحصيل” والمتضمن لحوالي صفحة، يطرح الدكتور المغربي “عبد المجيد حضري” الباحث في الفكر المقاصدي، العديد من الأسئلة حول واقع الفكر المقاصدي ومزايا استحضار هذا الاخير في مجمل القضايا والنوازل الفقهية التي تروم تحقيق المقاصد الشرعية بعد تشعب المعارف، وتطور حياة الناس بفعل ما خلفه التقدم العلمي من وفرة في وسائل عيش الإنسان، وبما أحدثه تبعا لذلك من صور المعاملات المختلفة، وما يتطلبه من معرفة أحكام الشريعة في هذه الصور.
إن طبيعة موضوع البحث فرضت على الباحث تقسيمه إلى مقدمة وخمسة أبواب، وكل باب قسمه إلى فصول، والفصل إلى مباحث، والمبحث إلى مطالب، والمطلب إلى فروع، وخاتمة، فكان الأمر إجمالا كما يلي:
أولا: المقدمة:
مهد فيه للموضوع، وتحدث عن دواعي اختياره وعن أهميته والإشكالات المقصودة للبحث فيه، وعن الخطة الذي سلكها في مقاربة أبوابه، فضلا عن الصعوبات التي واجهته خلاله.
ثانيا: الأبواب: ( وعددها خمسة):
الباب الأول:
خصصه للتعريف بابن رشد وبكتابه “البيان والتحصيــــل” وبالفكــــر المقاصدي: ذلك أن ابن رشد عاش في عصر ازدهرت فيه الحركة العلمية فساعده ذلك على تأليفه للموسوعة الفقهية “البيان والتحصيل” التي اعتبرت مصدرا من مصادر الفقه المالكي، فقد عاش أول حياته في أواخر حكم دول الطوائف، وآخر حياته في ظل الدولـة المرابطية التي قضت على الدويلات الطائفية التي كانت سائـدة آنذاك، وأقامت على أنقاضها دولة موحدة بين المغرب والأندلس دامت مدة من الزمن؛ حيث كانت – تلك الدويلات – المنتشرة بالأندلس منضوية تحت ألوية بشرية مختلفة المشارب، متنوعة الاتجاهات، كل واحدة منها تطمح لبسط سلطانها على البلاد.
كما أن أرض الأندلس لم تكن تعرف المذهب المالكي فحسب، وإنما تنازعتها مذاهب أخرى، منها التي انتهى انتشارها بدخول المذهب المالكي، ومنها التي شاركته الساحة الفقهية وإن لم تصل إلى مستواه، فبرزت “المدرسة المالكية” كأقوى مدرسة فقهية بالأندلس وأشدها استمساكا بآراء الإمام مالك، فازدهرت قرطبة وصارت من الذيوع والشهرة ما فاق سائر المراكز العلمية في العالم الإسلامي.
وقد انحدر ابن رشد من أسرة عربية ألأصل لكنها من الأسر المتعربة التي كانت تسكن ”سرقسطة” ثم انتقلت إلى قرطبة، وكانت من الأسر المرموقة بها فأنجبت العديد من العلماء يأتي في طليعتهم ابن رشد الذي ولد ونشأ وترعرع بقرطبة، وفيها تلقى العلم الزاخر، وفيها أيضا تولى المناصب العالية، وبها مات ودفن، وتربى على يد أبيه الذي كان له الفضل في توجيهه وتعليمه، ووجد نفسه بين علماء كبار يرحل إليهم بقرطبة فأخذ عنهم ثقافة علمية واسعة، ولم تنقل عنه كتب الطبقات – حسب علمي- أنه تجاوز أسوار قرطبة لأخذ العلم خارجها كما هي عادة الطلاب قبله وبعده، بل من تلامذته من يشير إلى أنه اكتفى بعلماء قرطبة، وبما وجده فيها من علوم وكتب، حيث اختار – هؤلاء العلماء – ليستفيد من تخصصاتهم العلمية، فلم يقتصر على صنف واحد منهم، وإنما صار يتنقـل بينهم، فتنوعت العلـوم التي تحصل عليها، وظهر باعه فيها، فهو فقيه، ومتكلم، ومحدث، ولغوي،.. وغير ذلك من الجوانب العلمية التي نهل منها فأصبحت مصادر ثقافته.
وبعد أن تشبع ابن رشد بثقافة علمية صحيحة في هذا المجال، أصبح عالما أشعريا، فله بعض الفتاوى في العقيدة في “نوازله”، أما في “البيان والتحصيل” فقد وجدت بعض المسائل يعرض فيها آراء بعض الفرق ويرد عليها ويجعلها من الفرق الضالة، وكل ذلك لبيان علل ومقاصد الأحكام الشرعية التعبدية، ولما بلغ مكانة عالية في تحصيل العلوم، تبوأ مقعده بين الشيوخ ولفت أنظار السائلين والمستفتين، فتقلد وظائف عديدة وأصبح له تلامذة يدافعون عنه وينشرون أفكاره في ربوع الأندلس، كما أنه خلف كتبا عديدة في مجالات شتى يغلب عليها الطابع الفقهي، لا زال التاريخ يشهد له بها.
وكتابه “البيان والتحصيل”، يعتبر أحد أمهات الفقه المالكي؛ لتوفره على كم هائل من المسائل الفقهية في مختلف الفروع من عبادات ومعاملات وأخلاق وعقائد..؛ فقد ألفه ليستفيد منه العامة والخاصة في العالم الإسلامي، فما كان له إلا أن يتبوأ مكانة بارزة في مكتبة الفقه المالكي، كما أن تلامذته عرفوا قدر هذا الكتاب؛ فاعتنوا بروايته وحفظه وقاموا بتدريسه لطلابهم معتبرينه أحد المصادر المعتمدة في الفقه المالكي، مما جعلهم ينقلون منه، ويختصرونه ويعتنون به بقدر ما يستحق.
ولم يعن العلماء القدامى بتحديد تعريف للمقاصد، لأن اهتمامهم كان منصبا على إظهار بعض مباحث ومسائل مقاصد الشريعة في ثنايا تآليفهم دون إسهاب أو تحليل، أما العلماء المحدثون فما من أحد منهم إلا وقد عرف “المقاصد” بطريقته، وإن اختلفت وجهات نظرهم في ذلك، ولعل هذا يرجع إلى أن عصر السابقين عصر نبوغ وعلم، لم يحتج فيه أهله إلى بيان مصطلحات العلوم لوضوحها عندهم، وكان ذلك شأن ابن رشد؛ إذ كانت المعاني عنده واضحة ومتمثلة في ذهنه دون كد أو مشقة.
هذا؛ ولقد ظهرت المدارس الفقهية المعروفة في تاريخ الفقه الإسلامي، نتيجة لاختلاف مناهج العلماء في استنباط الأحكام الشرعية، وباعتبار المقاصد مجرد مصطلح علمي مرادف للأسرار والغايات والحكم والمصالح…، فقد نشأت منذ عصر الرسالة، إذ إن تلك المفاهيم ظلت مقرونة بلفظة الشريعة. أما باعتبار المقاصد علما قائما بذاته، مستقلا عن علم أصول الفقه، كباقي العلوم الشرعية الأخرى، فإن مصدر نشأته يرجع إلى بعض الأعلام الذين أسهموا في أبحاثه ومسائله كالإمام ابن رشد والشاطبي والعز بن عبد السلام وغيرهم من العلماء قديما وحديثا.
ومن خلال تتبع مسار الفكر المقاصدي عبر حلقاته التاريخية البارزة، نستشف أن مثل هاته الحلقات لا يمكن إلا أن تشكل الإطار الموضوعي الذي يندرج فيه الفكر المقاصدي عند ابن رشد، ميسرة السبل لدراسته، وذلك من خلال إمعان النظر في المسائل التي يحويها كتابه الشهير: “البيان والتحصيل”.
كما أن هذا الإطار يساعد على الكشف عن المنحى التعليلي عند ابن رشد، على اعتبار أن هذا الفكر هيمن بشكل كبير على المنهجية الأصولية، ذلك ما حاولت التطرق إليه في الباب الثاني من البحث.
الباب الثاني:
تناول فيه الباحث الحديث عن المنحى التعليلي عند ابن رشد من خلال كتابه “البيان والتحصيل”. حيث إن معرفة تعليل الأحكام تمثل قمة الفقه الإسلامي وزبدته، إذ به تعرف أسرار الشريعة التي تقرب الإنسان من الطاعة وتبعده عن المعصية، وهذا الموضوع هو السمة البارزة التي لا يخلو منها جزء من أجزاء “البيان والتحصيل”، حيث اعتبر التعليل من مرتكزات الفكر المقاصدي عند ابن رشد، فهو يقوم عنده على أساسين هامين:
الأول: النظر إلى الأحكام الشرعية من حيث مقصودها في جلب المصالح ودرء المفاسد.
والثاني: النظر إلى معاني النصوص، وذلك بتعليلها ومعرفة أسرارها وحكمها دون الوقوف عند ظواهرها.
فالتعليل عنده يكتسي مفهوما واسعا وشاملا لأوجه المعاني المتداولة في الحقل الدلالي لدى كل من الأصوليين والفقهاء المقاصديين.
وابن رشد وإن لم يقدم تعريفا معينا للعلة والتعليل – لا حدا ولا رسما – شأنه في ذلك شأن معاصريه، فإن المتأمل في كتابه “البيان والتحصيل” لا يجد بدا من ملاحظة تطبيقاته الفقهية في تعليله للأحكام الشرعية والأقوال المختلفة في الحكم الواحد، فقد قدم ثروة هائلة في باب التعليل تمثيلا وتطبيقا بطرق مختلفة في صيغ مبتكرة، حيث يدل على تمثله لإعمال عقله في الأحكام والفروع الفقهية، فيتتبع التعليل من بين ثنايا الأحكام بالنص عليه وإن كان صريحا، أو بالإيماء والإشارة إن كان خفيا أو بعيدا.
ومن خلال تتبعي للمسائل الفقهية عنده تحصل لدي أن مقصوده بالتعليل هو “بيان الأحكام الشرعية وكيفية استخراجها”، وهذا قد يكون لأجل القياس لأنه لا قياس إن لم توجد علة تربط بين الأصل المقيس عليه والفرع المقيس؛ وقد يكون التعليل عنده بحثا عن مطلق معنى يصلح متعلقا لحكم شرعي يحكم به، كجلب مصلحة أو دفع مفسدة أو رفع لحرج واقع أو متوقع وهو ما يدخل في باب التعليل بالمصالح المرسلة، لذلك كان “التعليل” عنده يكتسي مفهوما واسعا يستشف من مختلف تطبيقاته واستعمالاته؛ فقد يكون لأجل القياس ولا قياس إن لم تكن علة، وقد يكون بحثا عن مطلق معنى يصلح متعلق للحكم يحكم به وهو ما يدخل في باب المصالح المرسلة، وقد يكون لمجرد بيان العلة فيه والحكمة المقصودة منه.
وإذا كان – ابن رشد – يعطي للتعليل مفهوما واسعا وشاملا لأوجه المعاني الاصطلاحية وفق تطبيقاته على المسائل الفقهية الواردة في كتابه “البيان والتحصيل” على أنه بيان للأحكام الشرعية ومبرز لفحواها ولطريقة استنباطها من الفروع الفقهية، فإنه بذلك ينحو منحى القائلين بالتعليل لأفعال الله عز وجل وأحكامه في إثبات المقاصد الشرعية؛ فقد علل الأحكام والمسائل الفقهية في مجال العبادات كما هو الشأن في مجال المعاملات.. إذ يتضح من خلال ما تم إيراده من أمثلة تطبيقية من مصادر مختلفة؛ اتفاق الفقهاء على اعتماد ابن رشد التعليل منهجا له بكتابه “البيان والتحصيل” في تعامله مع أقوال الفقهاء وآرائهم.
وقد سلك في تعليله للفروع الفقهية في كتاب “البيان والتحصيل” مسلكـا بديعـا، فلم يكن يسرد الأقوال الواردة في المسألة سردا ولم يكن يكتفي ببيانها وشرحها، بل ولا بتأويلها وتوجيهها حتى تنساق مع ما تقتضيه، وإنما نص عليها تارة وبينها بأوجه عديدة تارة أخرى؛ إذ اعتمد التنصيص على العلة في إيراده للآراء والأقوال الفقهية؛ حيث أولاها عناية فائقة في التدليل على الأحكام وتعليلها، وإن لم يجد لذلك مكانا لازما في التنصيص عليها؛ فقد علل بعض الأقوال والآراء بلفظ المعنى، وهذا المصطلح نجده بكثرة عند الإمام الشاطبي كما في قوله: “الأعمــال الشرعية ليست مقصودة لا لنفسهـا، وإنما قصد بها أمور أخرى، هي معانيها، وهي المصالح الذي شرعت لأجلها”[1]. وهناك ألفاظ، تستعمل أحيانا للتعبير عن العلة والتعليل مثل “الغرض” و”المراد” و”المغزى” لكنها قليلة في استعمال ابن رشد لها.
كما أنه – أي ابن رشد – استخدم مسلك الدوران للكشف عن علة الأحكام الشرعية ومغزاها ومبناها، وهو مسلك بديع مداره أن الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما، فأينما وجدت العلة وجد الحكم والعكس.
إن ظاهرة تعليل الأحكام عند ابن رشد تستحق البحث والتتبع، ذلك أنه لم يأل جهدا في تعليل أقوال المذهب بل وأحكام الشريعة عامة، وقد حشد في كتابه “البيان والتحصيل” ما لا يحصى من تعليل سواء كان التعليل من اجتهاده واستنباطه أو نقله، إلا أن نقله إياه لا يعني تسليمه به، بل يقلب الأمر على وجوهه فإذا رآه – بعد عرضه على قواعد الشريعة – أنه تعليل مقبول قبله، وإذا رآه مخالفا رده، وربما رجح بين العلل المتعددة في الفرع الواحد وفي الجزئية الواحدة، وهذا يعني أن روح التعليل كانت تسري في فكره؛ إذ يستحضره عند كل مسألة، فلو نظرت إلى كتابه “البيان والتحصيل”- ولو نظرة عجلى- لهالك ما قدمه من ثروة تعليلية تدل على رسوخ قدمه في البحث عن العلة واكتشافها.
ولا يخفى – وقد تقدم هذا – أن ابن رشد كان يقصد بالعلة ما لا يقصده المتأخرون، بل هي ذات معنى أوسع عنده، ولذلك قام يقدم ذلك بمعنى الحكمة وبمعنى الغرض والسبب والمقصد وما أشبهه..، وكثيرا ما كان ينقل عن غيره عللا ليغني بها موضوعه، فهو يعمد إلى الفرع الواحد ويذكر ما قيل فيه من علل وينص عليها ويشرحها، ثم بعد ذلك يدرسها ويقارنها بأصول الشريعة ومقاصدها؛ فإن توافق معها نص عليها وقبلها وأبدى إعجابه بها وقد يقول عنها »علة صحيحة« أو »علة بينة« ، أما إذا وجد أنها تخالف شيئا مما ذكر فإنه يردها وينص على فسادها وقد يقول »ليست بشيء« أو »علة فاسدة«.
الباب الثالث:
تكلم فيه عن الفكر المقاصدي وعلاقته بالأدلة الشرعية عند ابن رشد من خلال كتابه ”البيان والتحصيل”: ذلكأن الأدلة الشرعية، سواء المتفق عليها أو المختلف فيها، النقلية أو العقلية، هي منطلق الفكر المقاصدي عند ابن رشد في كتابه“البيان والتحصيل”؛ فقد اهتم بمعظمها في تسخيرها خدمة للفكر المقاصدي مؤكدا في كتابه – هذا – أن على طالب الفقه أن يبدأ بدراسة الأدلة الشرعية التي لا ينبغي الجهل بها، ولا يستقيم التفقه في حكم من أحكام الشرع قبلها[2]، فكانت علاقة – هذا الفكر – بالأدلة الشرعية مرتبط ارتباطا وثيقا للأسباب التالية:
أ – البيان والتأكيد على أن “الفكر المقاصدي” برمته هو قبلة الأدلة الشرعية ومستندها الذي لا ينبغي إغفاله لدى الفقيه.
ب – بيان أهمية عدم فصل “الفكر المقاصدي” أو “علم المقاصد الشرعية” عن علم أصول الفقه.
ج – التأكيد على مكانة ابن رشد، باعتباره “بصيرا بالأصول”[3]، في هذا المجال ومدى اهتمامه بالفكر المقاصدي.
فقد أولى – أي ابن رشد – الأدلة الشرعية الأهمية القصوى في فهم المقاصد الشرعية للأقوال والمسائل الفقهية الواردة في “البيان والتحصيل”، وتتجلى العلاقة الوطيدة للفكر المقاصدي بتلك الأدلة من خلال استدلاله المصلحي للأقوال والمسائل بها وتوجيهها مقاصديا من خلالها، فكثيرا ما يستدل ابن رشد على ما استنبطه من علة أو على ما استنبطه غيره، بالأدلة الشرعية، فيأتي تقصيده وتعليله بعد ذلك موافقا لمرامي الشريعة القريبة والبعيدة، وهو ما كان يقصده في معرفة الغايات العامة والخاصة والجزئية، أو الضروريات والحاجيات والتحسينيات.
الباب الرابع:
خصصه للحديث عن التقعيد الفقهي المقاصدي عند ابن رشد من خلال كتابه “البيان والتحصيل” وذلك من جانبه الشمولي.
فتقعيد وتأصيل القواعد الفقهية المتضمنة لمعنى المقاصد الشرعية اعتبرت من أبرز اضافات ابن رشد في الفكر المقاصدي خصوصا في كتابه “البيـان والتحصيل”، فقد قدم ثروة مهمة من القواعد والضوابط والنظائر الفقهية التي تحمل في مضمونها معنى المقاصد الشرعية إثراءا لها من الجانب التقعيدي التأصيلي؛ وبذلك تكون القاعدة الفقهية المقاصدية دليلا يحتج به إذا كان لها أصل من الكتاب أو السنة. كقاعدة “الأمور بمقاصدها”؛ فإن الاحتجاج بها نابع من الاحتجاج بأصلها وهو حديث: “إنما الأعمال بالنيات”، أما ما عدا ذلك من القواعد وهي التي أسسها الفقهاء نتيجة استقراء المسائل الفقهية، فذهب بعض العلماء إلى أنها تعتبر شاهدا يستأنس به، ولا يمكن الاعتماد عليها في استخراج حكم شرعي.
كما تعتبر القواعد الخمس أمهات القواعد التي قيل فيها لأن جميع مسائل الفقه تؤول إليها، وقد حظيت بالأسبقية في تدوين القواعد الفقهية، وتمتاز بأنها قواعد يتفق أهل المذاهب عليها، مع قلة المستثنيات فيها على الرغم من اتساعها وإحاطة كل منها بمعظم أبواب الفقه.
ويتضح كذلك أن مقصود ابن رشد بالنظائر الفقهية المقاصدية أو – القواعد العامة- من خلال تطبيقاته الفقهية بـ “البيان والتحصيل” تلك القواعد التي تدخل في أكثر من باب واحد، إلا أنها لا تصل في اتساعها وشمولها للأبواب إلى درجة القواعد الكبرى؛ فهي أعم من الضوابط، ودون القواعد الخمس في الشمـول، فقد حظيت بعناية علماء المذهب في وقت مبكر فألفوا فيها مؤلفات عديدة، وهي تنقسم من حيث الاتفاق والاختلاف إلى نوعين: أحدهما متفق عليه – بحسب الصيغة التي ورد بها -، والثاني: مختلف فيه؛ وهو الذي يبتدئ – غالبا بأداة الاستفهام “هل”، أو يصرح بلفظ الاختلاف فيه كقولهم: “اختلفوا في..”، وتسمى “أصول الخلاف”، وعلى هذا النحو نجد النظائر الفقهية عند ابن رشد، أما مقصوده بالضوابط الفقهية المقاصدية؛ فهي تلك القواعد التي تختص الواحدة منها بباب واحد من أبواب الفقه تضطرد فيه وتنضبط صوره المتشابهة في الحكم، وهي أيضا؛ من المواضع التي استأثرت بعناية فقهاء المالكية خاصة في الغرب الإسلامي فألفوا فيها مؤلفات عديدة، ربما كانت صدى لما تعج به دواوين المذهب من هذه الضوابط على نحو ما نجد في “البيان والتحصيل” الذي أودعه ابن رشد الكثير من هذه الضوابط التي نجدها متناثرة في مختلف أبواب الفقه وفصوله والتي بين من خلالها مزايا المقاصد الشرعية.
الباب الخامس:
أفرده للحديث عن إسهامات ابن رشد في الفكر المقاصدي والتي شكلت منطلقا فكريا مقاصديا لمن جاء بعده، لوفرة استعمالاته لها في المسائل الفقهية التي تنبني أحكامها على أسس مقاصدية، وتمثلت إسهاماته الأساسية هاته في مجال المقاصد في إعماله واستحضاره للفكر المقاصدي عموما في عملية التصحيح والتوجيه والترجيح والنقد المقاصدي للأقوال والآراء الفقهية بـ “البيان والتحصيل”. إذ توفق في طريقة تدريسه وسلوكه أسلوبا غائيا في معالجة كتب “المدونة” حببت الطلبة إليه، واعتماده في شرح كتاب العتبي المستخرج من الأسمعة منهجا جذابا وسبيلا مشوقا كاشفا به المعاني والغايات وموفقا فيه بين مختلف الروايات، ومنتبها إلى ما فيه من صحة وضعف، وصواب وخطأ..، وتوفيقه في ذلك يعود إلى طريقة تصحيح الأقوال وتوجيهها والترجيح فيما بينها ونقدها؛ وذلك كله من وجهة نظر فقهية مقاصدية تعمل على إبراز الدلالات والمعاني من الأحكام الشرعية للمسائل والآراء الفقهية والتنبيه عليها،
وقد خرج الباحث بذلك بجملة من النتائج في هذا الصدد نلخصها في النقط التالية:
1 – إن ابن رشد رجل قلما يوجد له مثيل، فقد عاش في عصر ازدهرت فيه الحركة العلمية؛ ما ساعده على تأليف موسوعته الفقهية “البيان والتحصيل” التي اعتبرت مصدرا من مصادر الفقه المالكي.
2 – إن ابن رشد انحدر من أسرة عربية الأصل – لكنها من الأسر المتعربة – التي كانت تسكن ”سرقسطة” ثم انتقلت إلى قرطبة، وكانت من الأسر المرموقة بها فأنجبت العديد من العلماء يأتي في طليعتهم ابن رشد، إذ ولد ونشأ وترعرع بقرطبة، وفيها تلقى العلم الزاخر، وفيها أيضا تولى المناصب العالية، وبها مات ودفن، وتربى على يد أبيه الذي كان له الفضل في توجيهه وتعليمه، ووجد نفسه بين علماء كبار يرحل إليهم بقرطبة فأخذ عنهم ثقافة علمية واسعة، حيث اختارهم ليستفيد من تخصصاتهم العلمية، فلم يقتصر على صنف واحد منهم، وإنما صار يتنقـل بينهم، فتنوعت العلـوم التي تحصل عليها، وظهر باعه فيها، فهو فقيه، ومتكلم، ومحدث، ولغوي،.. وغير ذلك من الجوانب العلمية التي نهل منها فصارت مصادر ثقافته.
3 – إن أرض الأندلس لم تكن تعرف المذهب المالكي فحسب، وإنما تنازعتها مذاهب أخرى، منها التي انتهى انتشارها بدخول المذهب المالكي، ومنها التي شاركته الساحة الفقهية وإن لم تصل إلى مستواه، إذ برزت “المدرسة المالكية” كأقوى مدرسة فقهية بالأندلس وأشدها استمساكا بآراء الإمام مالك، فازدهرت قرطبة وصارت من الذيوع والشهرة ما فاق سائر المراكز العلمية في العالم الإسلامية، وابن رشد بعد أن تشبع بثقافة علمية رصينة، أصبح فقيها مقاصديا، إذ عالج آراء الفقهاء واقوالهم إذ بين علل ومقاصد الأحكام الشرعية التعبدية، ولما بلغ مكانة عالية في تحصيل العلوم، تبوأ مقعده بين الشيوخ ولفت أنظار السائلين والمستفتين، فتقلد وظائف عدة وأصبح له تلامذة يدافعون عنه وينشرون أفكاره في ربوع الأندلس، كما أنه خلف كتبا عديدة في مجالات شتى يغلب عليها الطابع الفقهي، لا زال التاريخ يشهد له بها.
4 – إن كتاب “البيان والتحصيل”، يعتبر أحد أمهات الفقه المالكي؛ لتوفره على كم هائل من المسائل الفقهية في مختلف الفروع من عبادات ومعاملات وأخلاق وعقائد..؛ فقد ألفه ليستفيد منه العامة والخاصة في العالم الإسلامي، فما كان له إلا أن يتبوأ مكانة بارزة في مكتبة الفقه المالكي، كما أن تلامذته عرفوا قدر هذا الكتاب؛ فاعتنوا بروايته وحفظه وقاموا بتدريسه لطلابهم معتبرينه أحد المصادر المعتمدة في الفقه المالكي لبيان العلل والغايات المقصودة من تشريع الأحكام الشرعية، مما جعلهم ينقلون منه، ويختصرونه ويعتنون به بقدر ما يستحق.
5 – لم يعن العلماء القدامى بتحديد تعريف للمقاصد، لأن اهتمامهم كان منصبا على إظهار بعض مباحث ومسائل مقاصد الشريعة في ثنايا تآليفهم دون إسهاب أو تحليل، أما العلماء المحدثون فما من أحد منهم إلا وقد عرف “المقاصد” بطريقته، وإن اختلفت وجهات نظرهم في ذلك، ولعل هذا يرجع إلى أن عصر السابقين عصر نبوغ وعلم، لم يحتج فيه أهله إلى بيان مصطلحات العلوم لوضوحها عندهم، وكان ذلك شأن ابن رشد؛ إذ كانت المعاني عنده واضحة ومتمثلة في ذهنه دون كد أو مشقة.
6 – ظهرت المدارس الفقهية المعروفة في تاريخ الفقه الإسلامي، نتيجة لاختلاف مناهج العلماء في استنباط الأحكام الشرعية، وباعتبار هذه الأخيرة مجرد مصطلح علمي مرادف للأسرار والغايات والحكم والمصالح…، فقد نشأت منذ عصر الرسالة، إذ إن تلك المفاهيم ظلت مقرونة بلفظة الشريعة. أما باعتبار المقاصد علما قائما بذاته، مستقلا عن علم أصول الفقه، كباقي العلوم الشرعية الأخرى، فإن مصدر نشأته يرجع إلى بعض الأعلام الذين أسهموا في أبحاثه ومسائله كالإمام ابن رشد والشاطبي والعز بن عبد السلام وغيرهم من العلماء قديما وحديثا، فمن خلال تتبع مسار الفكر المقاصدي عبر حلقاته التاريخية البارزة، نستشف أن تلك الحلقات لا يمكن إلا أن تشكل الإطار الموضوعي الذي يندرج فيه الفكر المقاصدي عند ابن رشد، ميسرة السبل لدراسته، وذلك من خلال إمعان النظر في المسائل التي يحويها كتابه الشهير: “البيان والتحصيل”، وهذا الإطار ساعد على الكشف عن المنحى التعليلي للأحكام الشرعية، على اعتبار أن هذا الفكر هيمن بشكل كبير على المنهجية الأصولية.
7 – الاعتراف بجهود ابن رشد وفضله العظيم في التأسيس والتطبيق لعلم المقاصد، والاهتمام به قبل الإمام الشاطبي، والفكر الإسلامي اليوم في حاجة ماسة إلى الأخذ بآرائه والعمل بأفكاره في شتى ميادين العلم والثقافة.
8 – معرفة تعليل الأحكام تمثل قمة الفقه الإسلامي وزبدته، إذ به تعرف أسرار الشريعة التي تقرب الإنسان من الطاعة وتبعده عن المعصية، وهذا الموضوع هو السمة البارزة التي لا يخلو منها جزء من أجزاء “البيان والتحصيل”، حيث اعتبر التعليل من مرتكزات الفكر المقاصدي عند ابن رشد، إذ يقوم عنده على أساسين هامين:
الأول: النظر إلى الأحكام الشرعية من حيث مقصودها في جلب المصالح ودرء المفاسد.
والثاني: النظر إلى معاني النصوص، وذلك بتعليلها ومعرفة أسرارها وحكمها دون الوقوف عند ظواهرها.
لذلك اكتسى التعليل عنده مفهوما واسعا وشاملا لأوجه المعاني المتداولة في الحقل الدلالي لدى كل من الأصوليين والفقهاء المقاصديين، فقد قدم ثروة هائلة في باب التعليل تمثيلا وتطبيقا بطرق مختلفة في صيغ مبتكرة، حيث يدل على تمثله لإعمال عقله في الأحكام والفروع الفقهية، فيتتبع التعليل من بين ثنايا الأحكام بالنص عليه وإن كان صريحا، أو بالإيماء والإشارة إن كان خفيا أو بعيدا.
9 – إن مقصوده بالتعليل هو: “بيان الأحكام الشرعية وكيفية استخراجها”، وهذا قد يكون لأجل القياس لأنه لا قياس إن لم توجد علة تربط بين الأصل المقيس عليه والفرع المقيس، وقد يكون التعليل عنده بحثا عن مطلق معنى يصلح متعلقا لحكم شرعي يحكم به، كجلب مصلحة أو دفع مفسدة أو رفع لحرج واقع أو متوقع وهو ما يدخل في باب التعليل بالمصالح المرسلة، لذلك كان “التعليل” عنده يكتسي مفهوما واسعا يستشف من مختلف تطبيقاته واستعمالاته؛ فقد يكون لأجل القياس ولا قياس إن لم تكن علة، وقد يكون بحثا عن مطلق معنى يصلح متعلقا للحكم يحكم به وهو ما يدخل في باب المصالح المرسلة، وقد يكون لمجرد بيان العلة فيه والحكمة المقصودة منه.
10 – إن ابن رشد سلك في تعليله للفروع الفقهية في كتاب مسلكـا بديعـا، فلم يكن يسرد الأقوال الواردة في المسألة سردا ولم يكن يكتفي ببيانها وشرحها، بل ولا بتأويلها وتوجيهها حتى تنساق مع ما تقتضيه، وإنما نص عليها تارة وبينها بأوجه عديدة تارة أخرى؛ إذ اعتمد التنصيص على العلة في إيراده للآراء والأقوال الفقهية؛ حيث أولاها عناية فائقة في التدليل على الأحكام وتعليلها، وإن لم يجد لذلك مكانا لازما في التنصيص عليها؛ فقد علل بعض الأقوال والآراء بلفظ المعنى، وهناك ألفاظ تستعمل أحيانا للتعبير عن العلة والتعليل مثل “الغرض” و”المراد” و”المغزى”، كما أنه استخدم مسلك الدوران للكشف عن علة الأحكام الشرعية ومغزاها ومبناها، وهو مسلك بديع مداره أن الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما، فأينما وجدت العلة وجد الحكم والعكس.
11 – إن ظاهرة تعليل الأحكام عند ابن رشد تستحق البحث والتتبع، ذلك أنه لم يأل جهدا في تعليل أقوال المذهب بل وأحكام الشريعة عامة، وقد حشد في كتابه “البيان والتحصيل” ما لا يحصى من تعليل سواء أكان ذلك من اجتهاده واستنباطه أو نقله، إلا أن نقله إياه لا يعني تسليمه به، بل يقلب الأمر على وجوهه فإذا رآه – بعد عرضه على قواعد الشريعة – أنه تعليل مقبول قبله، وإذا رآه مخالفا رده، وربما رجح بين العلل المتعددة في الفرع الواحد وفي الجزئية الواحدة، وهذا يعني أن روح التعليل كانت تسري في فكره الفقهي؛ إذ يستحضره عند كل مسألة، وقد كان يقصد بالعلة ما لا يقصده المتأخرون، بل هي ذات معنى أوسع عنده، ولذلك قام يقدم ذلك بمعنى الحكمة وبمعنى الغرض والسبب والمقصد وما أشبهه..، وكثيرا ما كان ينقل عن غيره عللا ليغني بها موضوعه، فهو يعمد إلى الفرع الواحد ويذكر ما قيل فيه من علل وينص عليها ويشرحها، ثم بعد ذلك يدرسها ويقارنها بأصول الشريعة ومقاصدها؛ فإن توافق معها نص عليها وقبلها وأبدى إعجابه بها وقد يقول عنها »علة صحيحة« أو »علة بينة« ، أما إذا وجد أنها تخالف شيئا مما ذكر فإنه يردها وينص على فسادها وقد يقول »ليست بشيء« أو »علة فاسدة«.
12 – كثرة تعليله للمسائل بالكتاب والسنة والقياس والإجماع وقول الصحابي..، وحذقه في اللغة العربية، إذ نجده عند التعليل يعتمد الحروف الخاصة به، كلام التعليل مثلا..، وكذا قدرته على التخريج، أي استنباط العلل لتكون منطلقا بعد ذلك لقياسات وتنظيرات تنتهي حسب حاجات الوقائع، وهذا نوع من الاجتهاد عظيم، إذ يساعد على الوصول إلى أسرار الشريعة، ويفتح المجال واسعا لتطور الفقه على أسس مقاصدية عقلانية واضحة، كما أن منهجه في التعليل مطابق لأقوال علماء الأصول كالإمام أبي حامد الغزالي والرازي وأبي الوليد الباجي…
13- إن مسألة التعليل من المسائل الأساسية التي تبنى عليها مقاصد الشريعة، وإن عدم القول بها يهمل هذه المقاصد ويهمشها، ولا يساعد في فهم النصوص الشرعية. وقد استخدم ابن رشد التعليل بشكل كبير في مختلف أجزاء كتابه، ولا غرو في ذلك، فهو ذو دراية بالأصول، كما أن الدراية كانت أغلب عليه من الرواية وهو من أهل الرئاسة في العلم والفهم، كما أنه استأثر بقدرته على التخريج، أي استنباط العلل، لتكون منطلقا بعـد ذلـك لقياسات وتنظيرات تنتهي حسب حاجـات الوقائع، وهذا نوع مهم مـن الاجتهـاد يساعد على الوصول إلى أسرار الشريعـة، ويفتـح المجال واسعـا لتطور الفقـه على أسس عقلانية واضحــة.
14 – أن ابن رشد علل المعاملات والعبادات، وفصل في حكمها بما لا يجده الطالب في كتب الأصول حيث اتخدت مسألة التعليل عنده عدة أبعاد ومفاهيم.
15 – الاعتراف بجهود ابن رشد في محاربة التقليد والجمود، ودعوته إلى الاجتهاد المتفتح الذي يستوعب كل مجالات الحياة بجميع تطوراتها وتغيراتها، ولا أبالغ عندما أقول أنه لا يوجد من العلماء من منع التقليد وأكد على محاربته كابن رشد حيث يظهر ذلك جليا في مختلف الفروع الفقهية من المسائل الواردة في “البيان والتحصيل”.
16 – إن علم المقاصد له ارتباط وثيق بالأحكام الشرعية وأدلتها، إذ مقاصد الشريعة تساعد على فهم الحكم والعمل به، وتعتبر الأدلة روافد للمقاصد ومصادر لها، كما أن الفكر المقاصدي عند ابن رشد يمثل محاولة علمية في بيان توجيـه المقاصد الشرعية لطرق تفقه المجتهدين عامة، ولطرقهم في الاستنباط من النوازل والمسائل الفقهية، سواء أكانت هاته المقاصد من قبيل مقاصد الشارع من الخطاب أم من قبيل مقاصده من الأحكام؛ ومما ساعده في ذلك استفادته من أعلام الفكر المقاصدي كإمام الحرمين الجويني والغزالي..، وقد فاق بعضهم في بعض الآراء.
فالأدلة الشرعية، سواء المتفق عليها أو المختلف فيها، النقلية أو العقلية، هي منطلق الفكر المقاصدي عند ابن رشد؛ فقد اهتم بمعظمها في تسخيرها خدمة للفكر المقاصدي مؤكدا أن على طالب الفقه أن يبدأ بدراسة الأدلة الشرعية التي لا ينبغي الجهل بها، ولا يستقيم التفقه في حكم من أحكام الشرع قبلها، فكانت علاقة – هذا الفكر – بالأدلة الشرعية مرتبط ارتباطا وثيقا، وتتجلى هذه العلاقة من خلال استدلاله المصلحي للأقوال والمسائل بها وتوجيهها مقاصديا من خلالها، فكثيرا ما يستدل ابن رشد على ما استنبطه من علة أو على ما استنبطه غيره، بالأدلة الشرعية، فيأتي تقصيده وتعليله بعد ذلك موافقا لمرامي الشريعة القريبة والبعيدة، وهو ما كان يقصده في معرفة الغايات العامة والخاصة والجزئية، أو الضروريات والحاجيات والتحسينيات.
17 – إن المقاصد علم دقيق وعميق ينتظر دوما من يتوغل فيه إذ أنه مادة ثرية، غزيرة لأي باحث أو مجتهد، بشرط العلم والفهم، والإحاطة بمتطلبات العصر في مختلف المجالات.
18 – يعتبر بحث المصالح والمفاسد من أركان علم المقاصـد، لكن لا يعني ذلك تقديم المصلحة على النص، إذ أن هذا يؤدي إلى تعطيـل الشريعـة، وانتشـار الفوضى في العمل بها.
19 – إن تقعيد وتأصيل القواعد الفقهية المتضمنة لمعنى المقاصد الشرعية اعتبرت من أبرز اضافات ابن رشد في الفكر المقاصدي، فقد قدم ثروة مهمة من القواعد والضوابط والنظائر الفقهية التي تحمل في مضمونها معنى المقاصد الشرعية إثراءا لها من الجانب التقعيدي التأصيلي؛ وبذلك تكون القاعدة الفقهية المقاصدية دليلا يحتج به إذا كان لها أصل من الكتاب أو السنة؛ كقاعدة “الأمور بمقاصدها” فإن الاحتجاج بها نابع من الاحتجاج بأصلها وهو حديث: “إنما الأعمال بالنيات”، أما ما عدا ذلك من القواعد وهي التي أسسها الفقهاء نتيجة استقراء المسائل الفقهية، فذهب بعض العلماء إلى أنها تعتبر شاهدا يستأنس به، ولا يمكن الاعتماد عليها في استخراج حكم شرعي.
20 – تعتبر القواعد الخمس الكبرى أمهات القواعد الفقهية المقاصدية؛ لأن جميع مسائل الفقه تؤول إليها، وقد حظيت بالأسبقية في تدوين القواعد الفقهية، وتمتاز بأنها قواعد يتفق أهل المذاهب عليها، مع قلة المستثنيات فيها على الرغم من اتساعها وإحاطة كل منها بمعظم أبواب الفقه.
22 – إن مقصود ابن رشد بالنظائر الفقهية المقاصدية أو – القواعد العامة – من خلال تطبيقاته الفقهية بـ “البيان والتحصيل” تلك القواعد التي تدخل في أكثر من باب واحد، إلا أنها لا تصل في اتساعها وشمولها للأبواب إلى درجة القواعد الكبرى؛ فهي أعم من الضوابط، ودون القواعد الخمس في الشمـول، فقد حظيت بعناية علماء المذهب في وقت مبكر فألفوا فيها مؤلفات عديدة، وهي تنقسم من حيث الاتفاق والاختلاف إلى نوعين: أحدهما متفق عليه – بحسب الصيغة التي ورد بها -، والثاني: مختلف فيه؛ وهو الذي يبتدئ – غالبا بأداة الاستفهام “هل”، أو يصرح بلفظ الاختلاف فيه كقولهم: “اختلفوا في..”، وتسمى “أصول الخلاف”، أما مقصوده بالضوابط الفقهية المقاصدية؛ فهي تلك القواعد التي تختص الواحدة منها بباب واحد من أبواب الفقه تضطرد فيه وتنضبط صوره المتشابهة في الحكم، وهي أيضا؛ من المواضع التي استأثرت بعناية فقهاء المالكية خاصة في الغرب الإسلامي فألفوا فيها مؤلفات عديدة، ربما كانت صدى لما تعج به دواوين المذهب من هذه الضوابط على نحو ما نجده في “البيان والتحصيل” الذي أودعه ابن رشد الكثير من هذه الضوابط التي نجدها متناثرة في مختلف أبواب الفقه وفصوله والتي بين من خلالها مزايا المقاصد الشرعية.
23 – إن إسهامات ابن رشد في الفكر المقاصدي شكلت منطلقا فكريا مقاصديا لمن جاء بعده، لوفرة استعمالاته لها في المسائل الفقهية التي تنبني أحكامها على أسس فقهية مقاصدية، وتمثلت إسهاماته الأساسية هاته في هذا المجال في إعماله واستحضاره للفكر المقاصدي عموما في عملية التصحيح والتوجيه والترجيح والنقد المقاصدي للأقوال والآراء الفقهية بـ “البيان والتحصيل”؛ إذ توفق في طريقة تدريسه وسلوكه أسلوبا غائيا في معالجة كتب “المدونة” حببت الطلبة إليه، واعتماده في شرح كتاب العتبي المستخرج من الأسمعة منهجا مقاصديا جذابا وسبيلا مشوقا كاشفا به المعاني والغايات وموفقا فيه بين مختلف الروايات، ومنتبها إلى ما فيه من صحة وضعف، وصواب وخطأ..، وتوفيقه في ذلك يعود إلى طريقة تصحيح الأقوال وتوجيهها والترجيح فيما بينها ونقدها؛ وذلك كله من وجهة نظر فقهية مقاصدية تعمل على إبراز الدلالات والمعاني من الأحكام الشرعية للمسائل والآراء الفقهية والتنبيه عليها.
24 – تأهل ابن رشد في إعماله للمقاصد الشرعية لتصحيح الروايات والأقوال والتمييز بينها لدرايته بمحتوى الكثير من أمهات المذهب المالكي كالمدونة والواضحة والعتبية والموازية، فحفظه لمسائل المدونة جعله قادرا على عرض مسائل العتبية عليها لتصحيحها مقاصديا، وقادرا كذلك على المقارنة بين الأقوال، كما أن تصحيحاته المقاصدية تميزت بالموضوعية، إذ لم يكن منحازا إلى مذهب ما أو شخص معين، وإنما كان ديدنه في ذلك ملاءمة القول لأصول المذهب ولمشهوره الوارد بالمدونة، أو مطابقته لما أمر الله عز وجل به في الكتاب ورسوله صلى الله عليه وسلم في السنة النبوية، أومسايرته لمقاصد الشريعة وأسرارها الكثيرة.
25 – التوجيه المقاصدي منهج لابن رشد في “البيان والتحصيل”، لأنه اتبعه في كامل الأجزاء، من أولها إلى آخرها} فقد سلك مبدأ الوسطية والاعتدال في توجيهه للأقوال والمسائل ولم يكن منحازا إلى مذهب أو فئة معينة وهما من غايات الشريعة ومقاصدها.
26 – لم يقتصر ابن رشد في توجيهه للأقوال والآراء الفقهية على الجانب الإيجابي أي بيان الصحة أو التنويه، وإنما كان ناقدا للأقوال، مبينا لضعفها وتهافتها كلما تبين له ذلك، فأولى اهتماما بالغا لهذا الفن حيث يبرز مفهوم النقد المقاصدي عنده على أنه تقوية أحد الدليلين المتعارضين والمتخالفين؛ أي تقويته بوجه من الوجوه المرجحة.
27 – استحضاره للمقاصد الشرعية في ترجيحه للأقوال والآراء الفقهية، إذ لا يخلو جزء من أجزاء كتابه من مواطن كثيرة، برز فيها ترجيحه للأقوال أو الروايات أو الآراء الفقهية، كما أنه لا يكتفي بالترجيح فحسب، وإنما يعلل ترجيحه مستدلا بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة، كما أنه يرجح قوله في المسألة أحيانا، وهذا دليل على استقلاله بالاجتهاد في مواطن كثيرة، كأن يقول بعد ترجيحه لرأي أو قول ما: »والذي أقول به كذا« مخالفا بذلك القول أو الرأي الذي رجحه.
28 – نقد ابن رشد للأقوال والآراء الفقهية اتسم بالموضوعية، لا تحايل فيه على الأقوال والآراء، لأنه كثيرا ما يورد وجه ما ذهب إليه القول المقابل، وهذا يدل على النفحات المقاصدية له، لأنه يترك للقارئ حرية اختيار القول الذي يراه مناسبا، دون أن يفرض عليه اختيار ما نقده أو التزام ما اختاره.
29 – إن ابن رشد كانت له تلميحات وإشارات، وعناية بمقاصد العقائد.. ورغم أنه اشتهر بين المعاصرين أن ابن عاشور أول من أوقد جذوة علم المقاصد في العصر الحديث، إلا أنني أعتبره رافدا من روافده في ذلك.
وبعد قراءتي لكتاب “البيان والتحصيل” وتمعني في ثناي مسائله لمرات عديدة، أقترح وأوصي بما يلي:
– أن يدرس لطلاب الدراسات الإسلامية وغيرهم في الجامعات المغربية.. وغيرها لما فيه من فوائد جمة في الفقه والأصول والتفسير والفتوى والحديث والخلاف والطب واللغة ..وغير ذلك من العلوم.
– أن يعتنى به بالبحث والدرس لوفرة المادة العلمية به في مجالات فقهية متنوعة من عقائد وعبادات ومعاملات وأخلاق وسياسة شرعية.. وغير ذلك.
– أن يعتمد في مجال القضاء والفصل في النزاعات بين الأطراف؛ إذ يشتمل على كم هائل من المسائل والأجوبة في هذا المجال، فضلا عن أن صاحبه كان ملما بهذه الوظيفة وممارسا لها.
– أن تزود به المكتبات العلمية العامة والخاصة لما له من مكانة متميزة في صفوف الكتب العلمية ولما يشتمل عليه من مزايا فكرية وعلمية لا توجد في غيره من الكتب…
[1] الموافقات: 2/385. و3/144.
[2] البيان والتحصيل:1/31.
[3] الغنية للقاضي عياض: ص54.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=3202