خطبة الجمعة … مقاصد وغايات

دينبريس
غير مصنف
دينبريس25 يناير 2014Last Update : السبت 25 يناير 2014 - 10:28 صباحًا
خطبة الجمعة … مقاصد وغايات

د. عبد المجيد حضري*
د. عبد المجيد حضري*
من أهم المقاصد التي راعاها الإسلام في طبيعة العلاقة بين المسلمين، اجتماع المسلمين ووحدتهم فقد أوجد لهم مناسبات عدة، وشرع لهم عبادات جماعية، ويدفعهم دفعًا نحو الاجتماع والوحدة، ومن تلك الوسائل “يوم الجمعة”، إذ جعله يوم عيد للمسلمين، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن هذا يوم عيد، جعله الله للمسلمين» (ابن ماجة)؛ ومن وسائل الاجتماع والوحدة في الجمعة أن شرعت الصلاة فيها جماعة فريضة دون الصلوات الأخرى، فالجماعة فيها سنة مؤكدة، كما أن من أركانها خطبتين، مع وجوب استماع المصلين إلى الخطيب.

وليوم الجمعة مكانة خاصة في الإسلام، فهو أفضل الأيام كما جاء في الحديث: «سيد الأيام يوم الجمعة وأعظمها عند الله تعالى من يوم الفطر ويوم الأضحى وفيه ساعة لا يسأل العبد فيها شيئا إلا آتاه إياه، ما لم يسأل حرامًا»، ومن دلائل عظم مكانة يوم الجمعة أن سميت سورة من سور القرآن باسمه، وهي سورة «الجمعة»، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، ذلك بأنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتينا من بعدهم، ثم كان هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا، وهدانا الله له، والناس لنا فيه تبع، اليهود غدا والنصارى بعد غد» (الطبراني).

وفيما يلي اذكر بعض المقاصد والغايات التي من اجلها شرعت خطبة الجمعة لتحقيق وحدة ولحمة المسلمين حسب ما أورده ابن رشد القرطبي في كتابه “البيان والتحصيل”:

أ/ تحقيق التواصــــــــل:

يوم الجمعة يوم تواصل للمسلمين، فكثير من الناس لا يرى بعضهم بعضًا إلا يوم الجمعة، إذ الذهاب إلى المسجد واجب، فيلتقي المسلمون في المسجد للاستماع وصلاة الجمعة، وبعدها يتلاقون فيما بينهم، ويسلم بعضهم على بعض، مما يشيع روح التواصل فيما بينهم.

وقد حثَّ الشرع على فعل بعض الطاعات الاجتماعية، خاصة في يوم الجمعة، كزيارة المرضى، وشهود الجنازة، وشهود النكاح، وزيارة الإخوان، وصلة الأرحام وغيرها من العبادات التي توثق العلاقة بين المسلمين، وتزيد روابط الألفة والمحبة في المجتمع المسلم.

ب/ تحقيق النظام في الحياة:

وذلك أن العبادات التي اشتمل عليها يوم الجمعة تظهر تحقق النظام فيه، وتدرب الأمة على أن تكون أمة منظمة في شؤونها، ومن مظاهر تحقق النظام والتدرب عليه تقديم الخطبة على الصلاة، وذلك حتى يجتمع أكبر عدد ممكن من المصلين، لأن صحة الصلاة تتوقف على الجماعة، بخلاف صلاة العيد مثلًا، فتقدم الصلاة على الخطبة، لأن صلاة العيد سنة.

ومن مظاهر النظام اقتداء المصلين بإمام واحد، واصطفاف المسلمين في صفوف منتظمة، وصعود الإمام على المنبر، ثم الأذان، ثم قيامه للخطبة، على أن تكون خطبتين، وتكون الأولى أطول من الثانية، على أن يراعى في الخطبتين عدم الإطالة، ثم الصلاة بعدهما.

ومن مظاهر النظام في الجمعة أن جعلت قراءة سورة الكهف من الليلة إلى نهاية اليوم، فلا تصح بعد المغرب من يوم الجمعة.

ج/ المداومة على الذكــــر:

وإذا كان الذكر واجبًا ومشروعًا في الأيام كلها، فإن له خصوصية في ذلك اليوم، فهو يوم تتربى فيه الأمة على ذكر الله بصنوف من الذكر، وقد نص القرآن على مقصد الذكر في سورة الجمعة، كما قال سبحانه: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون}.

ويتنوع الذكر في الجمعة، ومنه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وللصلاة عليه في هذا اليوم مزية عن غيره، فهو سيد الأنام، والجمعة سيد الأيام، فكان أفضل الصلاة على سيد الأنام أفضلها في أفضل الأيام، ومنه قراءة سورة الكهف في ليلته أو يومه، وقراءة سورة الإخلاص والمعوذتين والفاتحة بعده، وقد ذكر العلماء استحباب عدد من سور القرآن، وكأن المقصود أن تكون الأمة في ذكر في هذا اليوم خاصة.

د/ الطهارة والنظافة:

ومن مقاصد الجمعة أن تتعلم الأمة الطهارة بنوعيها، طهارة القلب، وطهارة البدن، أما طهارة القلب فهي تتدرب عليها من خلال تلك الصنوف من الطاعات المتنوعة التي لا تجتمع – في الغالب- للمسلمين في غير مثل هذا اليوم، فجيء بهذا اليوم ويحث فيه الشرع على صنوف من الطاعات والقربات حتى يتطهر القلب من براثن المعصية والآثام.

وكما اهتم الإسلام بطهارة القلب، وهي المقصود الأعلى، فإنه في ذات الوقت اهتم بطهارة البدن، إذ الظاهر غالبًا ما يكون عنوانًا للباطن، فحث الإسلام على غسل يوم الجمعة، فعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ص قال: «غسل الجمعة واجب على كل محتلم» (المسند)، كما طالب المسلمين بأن يرتدوا أحسن الثياب عندهم في يوم عيدهم، خاصة الثوب الأبيض، كما حثهم على التعطر والتزين وغيرها من مظاهر النظافة، وذلك لعناية الإسلام بنظافة المجتمع المسلم، فهو يجمع بين نظافة الفرد ونظافة المجتمع، وفي كل أماكن الاجتماع يستحب الإسلام الاهتمام بالنظافة والتعطر والتزين، فإن لذلك تأثيرًا على إشاعة الراحة النفسية، والاستعداد للسماع والإنصات، بخلاف ما لو انتشرت الروائح الكريهة، فهذا مما تنفر منه الطباع السليمة، ولا تكون في حالة تسمح لها بالاستماع والإنصات.

هـ/ الدعاء:

والإكثار من الدعاء مقصد من مقاصد يوم الجمعة، ووسائل تحقيق هذا المقصد أن جعل الله تعالى فيه ساعة إجابة، حثًّا للمسلمين على الإكثار من الدعاء فيه، فعن أبي هريرة قال قال رسول الله ص: «اليوم الموعود يوم القيامة واليوم المشهود يوم عرفة والشاهد يوم الجمعة وما طلعت الشمس ولا غربت على يوم أفضل منه فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجاب الله له ولا يستعيذ من شر إلا أعاذه الله منه». (الترمذي)

وحتى يكثر المسلمون من الدعاء فيه، فقد أخفيت ساعة الاستجابة فيه، حتى ذهب أهل العلم في تعيينها إلى أزيد من ثلاثين رأيًا.

ولما كان الدعاء من المقاصد ذات الأهمية في يوم الجمعة، فقد تنوع فيه الدعاء، بين الدعاء الفردي الذي يطيل اليوم كله، وبين الدعاء الجماعي، كما هو الحال في الخطبة، حيث يختم الخطيب خطبته بالدعاء، والناس يؤمنون وراءه، مما يحقق صورة من صور الطاعة الجماعية.

و/ ارتباط الأمة بالمسجد:

ومن مقاصد يوم الجمعة ارتباط الأمة بالمسجد، فتصح الصلاة في أي وقت في أي مكان، فعن أبي هريرة أن النبي ص قال فضلت على الأنبياء بست أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا (الترمذي).

ز/ التذكير والنصيحة:

ومن مقاصد الجمعة التذكير صلاة والنصيحة، وذلك من خلال خطبة الجمعة، حيث يذكر الخطيب المصلين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإرشاد إلى الحق والخير، بل من الأولى في خطبة الجمعة أن يتناول الخطيب االقضايا التي تهم المسلمين في الرقي بمجتمعهم، حتى يرتبط المصلون بقضاياهم وشؤونهم الدينية والدنيوية، تحقيقا لوحدة الأمة وتماسك افرادها تحت ظل ملكها وقائدها، كما يشمل ذلك أيضا القضايا العامة للمجتمع الذي يعيش فيه، ومن خلال الجمعة يمكن للإمام أن يساهم في ترشيد الرأي العام تجاه قضايا الأمة، وقضايا المجتمع.

ك/المسارعة الى فعل الخيرات:

ومن خلال مظاهر تحقق ذلك الحث على فعل الطاعات خاصة في هذا اليوم، وكذلك الحث على الحضور مبكرًا لصلاة الجمعة، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة وراح فكأنما قدم بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» (النسائي في السنن الكبرى).

خلاصة:

إن شعائر الجمعة تدفع الأمة إلى التعامل بروح الوحدة والجماعة، لا روح الفرد والأنانية، وتذكر المسلمين بأنهم كما خاطبهم ربهم سبحانه وتعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 92)، وتعينهم على مقصد الجماعة والاعتصام، كما قال سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103)، إننا اليوم بأمس الحاجة إلى إحياء مقاصد الجمعة، وأن تعاد إليها روحها، لا أن تكون مجرد صلاة ينتظر المصلون الانتهاء منها وهم لا يزالون في المسجد، وأن يدرك الخطباء أهمية هذه الصلاة وهذا اليوم، فيعدوا له العدة طوال الأسبوع، وليفكروا فيما يجذب الناس إليهم، من حسن إعداد الخطبة، واختيار الموضوعات التي تشغل هموم الناس وتعالج مشاكلهم، وترسم لهم الطريق، وتربطهم بإخوانهم في مشارق الأرض ومغاربها، فتتحقق– فعلًا- معاني الجمعة من الاجتماع والوحدة في هذه الأمة

* باحث في الفكر المقاصدي

Short Link

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.